د. زياد عقل
ليبيا من «ربيع العرب».. للفوضى!
استمرت الأزمة الليبية فيما يتعلق بالانفصال السياسى بين شرق البلاد وغربها لتنعكس آثارها على المنطقة، سواء داخل ليبيا أو خارجها، ولعل دول جوار ليبيا طالتها العديد من التهديدات بسبب تحولات الداخل الليبي على هامش ما يسمى بربيع العرب. منذ 2014 وليبيا فى حالة انقسام وتشرذم سياسي وعسكري، وخلال العام 2019، حدثت العديد من التحولات فى المشهد الليبي، سواء على المستوى الداخلي، أو على المستويين الإقليمى والدولى.
كانت ليبيا واحدة من دول خدعها «ربيع العرب»، فإذا ما حاولنا تلخيص الأزمة الليبية خلال العام 2019، سنجد أن هناك العديد من النقاط من المهم اتخاذها فى الحسبان. ربما النقطة الأولى هى جدلية الحسم العسكرى والتسوية السياسية، وهى جدلية يشتبك معها الداخل الليبى منذ فترة، ومع مرور الوقت يزداد عدد الفاعلين الإقليميين والدوليين فى الاشتباك مع هذه الجدلية. 2019 كانت بمثابة العامل الذى تمحور خلاله الملف الليبى حول التسوية السياسية والحسم العسكرى، ظهرت خلال هذا العام ثلاثة محاور للتسوية السياسية فى سياق الصراع الليبى، كان أولها من خلال البعثة الأممية فى ليبيا، ومحاولاتها لصناعة مصالحة بين الأطراف، ثم دول الجوار، التى تتواصل بشكل مستمر مع الداخل الليبى نظرًا لمصالح أمنها القومى، وفى النهاية القوى الدولية التى تحاول التواجد فى المشهد، سواء من أجل مصالحها فى المنطقة أو من أجل كسب المزيد من النفوذ، مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا. سجال عسكرى على الرغم من كل المبادرات والمحاولات، جاء السجال العسكرى الخاص بالدخول والسيطرة على طرابلس، لكى يجعل المبادرات السياسية تعود الكثير من الخطوات للوراء. فى الرابع من إبريل 2019، أعلن خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطنى الليبى، التحرك نحو العاصمة طرابلس لتحريرها من قبضة الميليشيات غير الشرعية المُسيطرة عليها. ومنذ ذلك التوقيت، بدأت مواجهات عسكرية تحدث فى ليبيا، من الممكن تعريفها من خلال أسلوب "الكر والفر". الجدير بالذكر، أن موازين القوى فى ليبيا على المستوى العسكرى لا يوجد بها طرف متفوق على الآخر، فكلا الطرفين يمتلكون قدرات وإمكانات عسكرية متشابهة، وبالتالى لم يشهد العام 2019 سوى اشتباكات عسكرية دون تحقيق تقدم ملحوظ لأى من الأطراف. أدت هذه المعادلة لتحول الصراع إلى سجال من الاشتباكات بين الجيش الوطنى الليبي، وبين القوى العسكرية فى طرابلس والميليشيات المسلحة التى أتت لطرابلس من مدينة مصراتة. هذا الوضع خلق سياقًا جديدًا للنزاع فى إطار الأزمة الليبية، منذ أن أعلن غسان سلامة عن خارطة الطريق بعد توليه رئاسية البعثة الأممية فى ليبيا، وتقدمه بخارطة طريق لحل سياسى، انصب الاهتمام على عملية المصالحة، والتسوية السياسية، ولكن بعد بدء النزاع العسكرى حول طرابلس، تراجعت الدول المعنية بالملف الليبى عن فكرة دعم التسوية السياسية حتى ترى ما ستسفر عنه حالة الاشتباك العسكرى، وهو ما يؤكد أن الواقع السياسى لخلق عملية من المصالحة فى ليبيا يرتبط بشكل كبير بالواقع العسكرى والاستراتيجى الموجود على الأرض. وفى نهاية العام 2019، قام المجلس الرئاسى بقيادة فائز السراج بإحداث تطور جديد فى الشأن الليبي، وكان ذلك من خلال توقيع مذكرات تفاهم مع تركيا، وتسمح هذه الاتفاقات لتركيا بالتواجد فى المياه الإقليمية الليبية، والتعاون الأمنى مع المجلس الرئاسى. توقيع الاتفاقات فى حد ذاته، يخل بفكرة التسوية السياسية، فهو اتفاق يسمح بتدخل أجنبي فى ليبيا، وموقع من قبل طرف واحد من أطراف الصراع، وهو ما شأنه أن يثير العديد من الإشكاليات بين الفصائل المختلفة فى سياق الصراع، وأيضًا بين الفاعلين الإقليميين والدوليين. اختراق السيادة بالطبع اعترض مجلس النواب، والجيش الوطنى الليبى على توقيع هذه الاتفاقية كونها تخترق السيادة الليبية على أرض ليبيا وتسمح بالتواجد العسكرى والأمنى والسياسى لأطراف أجنبية، وبعد أيام عدة من توقيع تلك المذكرات، ظهرت آثارها على الداخل الليبى. أعلن القائد العام للجيش الوطنى الليبى، المشير خليفة حفتر منذ أسبوعين، عن بدء عملية جديدة لدخول العاصمة طرابلس. جاء بعد ذلك عدد من العمليات العسكرية التى قام بها الجيش الوطنى الليبي فى كل من أطراف طرابلس ومدينة مصراتة، التى تُعد القلب العسكرى للغرب الليبى. وتظل معضلة السجال العسكرى فى ليبيا منذ بداية الربيع العربى وانهيار الدولة هى غياب التفوق العسكرى والاستراتيجى لأى طرف من الأطراف المتصارعة. والتحليل المنطقى لزحف المشير حفتر على طرابلس تعبر عن ردة فعل من قبل الجيش الوطنى الليبى، أو شرق ليبيا ككل، للاتفاقات التى تم توقيعها مع تركيا، هذا بالإضافة لتصريحات المتحدث الرسمى باسم الجيش الوطنى الليبى اللواء أحمد المسمارى عن استعداد الجيش لمواجهة أى تواجد تركى داخل الحدود الليبية أو فى مياهها الإقليمية. فقد خلق الدور التركي فى ليبيا حالة جديدة من التوتر السياسى والعسكرى بين الأطراف المتصارعة فى الداخل الليبى. موقف مصر كما ذكرنا من قبل، توقيع تلك الاتفاقات لم يلق ترحيبًا من قبل عدد من الفاعلين الإقليميين المعنيين بالشأن الليبي، أو بمنطقة شرق وجنوب المتوسط، وعلى رأسهم مصر. وأعربت مصر عن رفضها لهذا الاتفاق كونه يخل بالشرعية المعترف بها دوليًا فى ليبيا، حيث إنه لم يتم استشارة كيان شرعى مثل مجلس النواب فى أمر كهذا. الموقف المصري تجاه ليبيا كان ثابتًا منذ بدء الانقسام السياسي بين الشرق والغرب فى العام 2014 بعد انهيار الدولة فى ليبيا مصر تظل رافضة لأى تدخل أجنبي ، وترى أن الحل يكمن فى التوصل لرؤية مشتركة بين الأطراف فى الداخل الليبى، أو بمعنى آخر، مصر تؤمن أن الحل لا بد أن يكون حل ليبى ـ ليبى. كما أن مصر ترفض فكرة التدخل العسكرى بأى شكل من الأشكال وتؤيد مسار التسوية السياسية من خلال الأمم المتحدة أو المبادرات الدولية للتفاوض، ولكن التواجد التركي فى ليبيا بشكل علنى، سواء عسكريا أو سياسيا قد يجعل مصر تبدأ فى التفكير بمنهج مختلف. مصر تستعد لمواجهة هذا الاحتمال على صعيدين، أحدهما عسكري، والآخر سياسي. إذ قامت القوات المسلحة المصرية منذ أيام قليلة بمناورة عسكرية فى المتوسط من خلال القوات البحرية، وكانت هذه المناورة رسالة واضحة للإعلان عن التواجد المصري فى المتوسط، والإعلان عن قدرات قواته البحرية فى تلك المنطقة. وتظل القضية الليبية لمصر مسألة أمن قومى، وبالتالي من المنطقى أن تلجأ مصر لأسلوب الردع فيما يتعلق فى ملف بهذه الحساسية أمنيًا وسياسيًا. وعلى المستوى السياسي، بدأت مصر فى التواصل مع الدول المعنية بالتواجد التركي فى المياه الليبية، وعلى رأسها اليونان وقبرص، وهى دول زارها الرئيس عبد الفتاح السيسي وتوصل لحالة من التفاهم معا، خاصة فيما يتعلق بالتنقيب عن الغاز فى حدود البحر المتوسط، خاصة فى جنوب شرقه. كما أن مصر تتواصل مع فرنسا الرافضة هى الأخرى لهذا الاتفاق، وبالتالى من الممكن أن نقول إنه على المستوى السياسى، مصر تسعى لإقامة محور يتكون من عدة دول رافضة للتواجد التركي فى ليبيا، وهو ما يصب فى سياق الأمن القومى المصرى. تحولات دولية كما شهد العام 2019 حالة من التحول فى التحالفات الدولية بشأن ليبيا، خاصة فيما يتعلق بالدول المتحالفة مع الأطراف المختلفة فى الداخل الليبي شرقًا وغربًا، فقد تراجع دور البعثة الأممية بقيادة غسان سلامة، وفشل تطبيق خارطة الطريق التى اقترحتها إلى لجوء عدد من الدول للعمل فرادة، بعيدًا عن أى إطار مؤسسي. لذا، تراجع دور الاتحاد الأوروبى فى الملف الليبي أيضًا. وباتت هناك محاور دعم لكل طرف من الأطراف، فالغرب الليبى صار مدعومًا من قبل إيطاليا، وتركيا، وقطر، أما الشرق فهو مدعوم من مصر، وفرنسا، وروسيا، والإمارات العربية المتحدة. وهذا يعنى أن التواجد الأجنبى بدأ تأثيره يتزايد فى المشهد الليبى خلال 2019، وهذه الظاهرة من الممكن أن تطيل من أمد الصراع والانقسام السياسى، وتجعل عملية المصالحة أو التسوية شبه مستحيلة. فى النهاية، ليبيا شهدت هذا العام عدد من التوترات سياسيًا وعسكريًا. وفي ذات الوقت، ازدادت الخلافات بين القوى الفاعلة فى المشهد، خاصة فى الأشهر الأخيرة من العام وفى ظواهر بدأت منذ بداية الربيع العربى.. ولم تنته للآن. ويتطلع الكثير للمؤتمر الذي من المفترض أن يقام فى برلين بوساطة ألمانية لاستئناف مرحلة التفاوض السياسي بين مختلف الأطراف فى ليبيا. ولكن فى ظل ما يحدث من سجال عسكري فى المرحلة الراهنة، تبدو فكرة التفاوض بعيدة عن تحقيق أي نجاحات. فى حين أنه لا توجد أية ضمانات أن ما قد يخرج به مؤتمر برلين سيختلف كثيرا عن مؤتمر باريس أو مؤتمر باليرمو، فهي فى النهاية كلها أطراف دولية تقدم حلول لأطراف تتصارع مع بعضها البعض ولا تسعى لحل سياسي فى المقام الأول. المشهد فى ليبيا بات أكثر قربًا لنهج الحسم العسكرى بعد الفشل المتكرر للأمم المتحدة والمبادرات الدولية، وربما كانت آلية دول الجوار هى الأكثر فاعلية فى الوقت الحالى كونها تتواصل مع العناصر المختلفة فى الداخل الليبى، وليس طرفًا واحدًا.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة