السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

تونس.. «زواج» على مذهب ميكافيللى؟!

يقول الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط إن "الكذب هو أكبر انتهاك يرتكبه الإنسان بحقّ نفسه". فما بالك بالكذب بحقّ شعب وناخبين ائتمنوا السياسيين على مستقبل البلاد فصدّقوا وعودهم فى مكافحة الفساد ومقاومة الفقر وتطوير التعليم والصّحة وإصلاح المؤسّسات العامَّة والسياسات القطاعية.



فى تونس أسقط الشعب جماعة الإخوان ممثلة فى حركة النهضة.. لم يصوّتوا لهم.. وبحسب خبراء فى الشأن التونسى فقدت الحركة منذ العام 2011 بداية الخراب العربى المعروف باسم الربيع، أكثر من ثلثى قواعدها... لكنّ الليبراليين تحالفوا معهم ومكنوهم من السيطرة على البرلمان وبالتالى تشكيل الحكومة!. وفاة الباجى قايد السبسى الرئيس التونسى الراحل أفضت  إلى إقرار انتخابات رئاسية مبكرة فى منتصف سبتمبرالماضى، سابقة على الانتخابات التشريعية، رُغم أن العكس هو ما كان مبرمجًا قبل رحيل السبسى. خطط حزبية الوفاة أربكت خطط العديد من الأحزاب التونسية فى طريقة تدبيرها للعمليتين الانتخابيتين؛ وبخاصة حركة النهضة التى كانت تنتظر نتائج التشريعيات، وهل ستستمر فى الحفاظ على أغلبيتها داخل البرلمان؛ لأجل اتخاذ قرار يخصّ رئاسة الدولة؟، لكن فى النهاية قرّرت النهضة السير فى الاتجاهين معًا، حتى يمكن لها، فى حال الفوز فى العمليتين الانتخابيتين، أن تتوفر على رئيس للدولة ممثلًا فى عبدالفتاح مورو، ورئيس للبرلمان أو الحكومة، ممثلًا فى راشد الغنوشى رئيس الحركة. الشعب التونسى بشجاعة كبيرة أسقط الإخوان فى الاستحقاقين.. الرئاسى الذى فاز به المرشح المستقل قيس سعيد، والتشريعى.. لم يساند مرشحيهم فى إعلان كبير عن نهاية الإخوان فى تونس كما انتهت فى كل الدول العربية تقريبًا. لكن كان من حازوا على ثقة الشعب عادوا وتحالفوا مع الإخوان، فحزب "قلب تونس" تحالف معهم وأعطاهم الأفضلية فى البرلمان ليفوز الغنوشى برئاسته. تحالف الإخوان مع قلب تونس نموذج يدرس، تطبيق عملى رائع لمقولة "الغاية تبرر الوسيلة" التى أطلقها  مكيافيلى مؤلف كتاب الأمير. فالنهضة فازت بـ52 مقعدًا من أصل 217 مقعدًا، بينما حل "قلب تونس" فى المركز الثانى بـ38 مقعدًا... وهو ما مَهّد الطريق لانتخاب رئيس حركة النهضة راشد الغنوشى (78 سنة) رئيسًا للبرلمان التونسى فى افتتاح الجلسة البرلمانية التى عُقدت الأربعاء 13 نوفمبر الماضى، بـ123 صوتًا يشكلون غالبية الأصوات. فهل كان ذلك منتظرًا فى وقت تواجه الحركة صعوبات بالجملة فى تكوين ائتلاف سياسى مع بقية الأحزاب لدعم الحكومة التى لاتزال قيد التشكيل؟ ولماذا تقرّب حزب "قلب تونس" من "حركة النهضة"؟  قبل ساعات قليلة على انعقاد الجلسة الافتتاحية للبرلمان، ترددت أنباء عن تحالف استراتيجى بين حركة النهضة الإسلامية وحزب قلب تونس، ما هزّ أغلب متابعى الشأن السياسى التونسى من دون أن يستغربوه، فالحركة اعتادت على صفقات آخر لحظة من أجل تحقيق ما ترسمه لنفسها لا من أجل ما تسوقه للنّاخبين. الحركة بميكافيلية شديدة كررت صفقة عام 2014 مع حزب "نداء تونس"، الذى قال فيه الغنّوشى إنه أخطر من السّلفيين ويشكل خطرًا على تونس، وهو والنهضة خطّان متوازيان لا يلتقيان أبدًا. وقبل أيام قليلة من أولى جلسات البرلمان، كانت قيادات حركة النهضة تردّد بوضوح تصريحات حول استحالة التفاوض أو التحالف مع حزب "قلب تونس" بسبب ما يحوم حوله ورئيسه نبيل القروى من شبهات فساد.  وصرّح راشد الغنّوشى بنفسه فى لقاء تليفزيونى "لن نتحالف مع حزب تحوم حوله شبهات فساد مثل قلب تونس، سنتحالف مع الناس النّظاف". كما أكد القيادى فى الحركة رفيق عبدالسلام: "ملتزمون بعدم التحالف مع قلب تونس بسبب شبهات الفساد". وأكد القيادى عماد الحمّامى أن "حركة النهضة ستفتح المجال للجميع باستثناء حزب قلب تونس والحزب الدستورى الحُرّ". لم يستغرب التونسيون تراجُع "النهضة" عن وعودها الانتخابية تجاه ناخبيها وقواعدها، ولم تتّعظ الحركة التى خسرت نحو ثلثى قواعدها منذ عام 2011، من تجربة التوافق مع "نداء تونس"، إلّا أن متابعى الشأن السياسى التونسى يؤكدون أن "النهضة" ذهبت مكـرهةً إلى "قلب تونس" باعتباره القشة التى ستنقذ الحركة من المأزق الذى سقطت فيه إثر فشلها فى التوصُّل إلى اتفاق مع حزبَى "التيار الديمقراطى" و"حركة الشعب". شبهات فساد حزب "قلب تونس" أبدى ليونةً وبقى ينتظر مغازلة حركة النهضة، باحثًا عن التموقع السياسى الاستراتيجى من أجل تخفيف الضغط على رئيسه نبيل القروى المتهم بتبييض الأموال وشبهات فساد. سياق يشوبه تبادُل المصالح بين الحزبَين، قَـلَب المعادلة داخل البرلمان كى لا تخسر النهضة، البرلمان والحكومة معًا. "الزواج الهجين" هو اللفظ الأقرب لوصف ما حدث بين  حركة النهضة وقلب تونس. التطورات الأخيرة فى تونس تؤكد أن الإخوان لن يتخلوا عن مساعيهم للحُكم والسُّلطة حتى لو هادنوا أو دخلوا فى "التُّقية" فإن هدفهم وهدف الإسلام السياسى هو السُّلطة والحُكم... حتى لو تخلّوا عن قياداتهم أو ضحّوا بكل أعضاء التنظيم.. وهو ما يحدث بالفعل الآن فى تونس، فلا يكاد يمر يوم منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلّا ويزداد تصدُّع حركة النهضة الإخوانية التى باتت على حد وصف الخبراء "أوهن من بيت العنكبوت". "النهضة" تشهد زلزالًا فى بنيتها الداخلية بعد استقالة أمينها العام التنفيذى زياد العذارى، الذى أكد أن استقالته رفضًا للمسار الحالى الذى تتبعه حركة النهضة منذ الانتخابات التشريعية والرئاسية. وتأتى استقالة "العذارى" استمرارًا لمسلسل كشف فضائح رئيس حركة النهضة راشد الغنوشى واتهامه بكونه عراب الفساد داخل تونس وأن حزبه هو مجرد آلة لخدمة شخصه والاحتماء من خلاله من الملاحقات القضائية. ووضع زبير الشهودى، أمين سِرّ مكتب حركة النهضة، بعد استقالته، فى سبتمبر الماضى، راشد الغنوشى فى مرمى الاتهامات بالفساد والاختلاس للمال العام والثراء الكبير من دون وجه حق، هو وصهره رفيق عبدالسلام، مُعلنًا استقالته فى رسالة شهيرة نشرتها مواقع التواصل الاجتماعى.   وبحسب العديد من الخبراء؛ فإن تعدُّد الخطوات الانفصالية عن الغنوشى وبطانته المتهمة بالفساد ستؤثر على تشكيل حكومة ناجعة تستطيع تحقيق مطالب الشعب الاقتصادية والاجتماعية فى ظل وضع تنخره المديونية وارتفاع نسب البطالة وانتشار الفقر. ويتوزع الصراع داخل  النهضة بين صراع على خلافة الغنوشى وعلى التموقع فى الحُكم، فالحركة كيان سياسى تجاوز مرحلة العقائدية إلى مرحلة الانتهازية. والمؤكد أن  "النهضة" تمضى إلى حقبة تاريخية من التصدع الداخلى، وذلك بعد احتدام الصراع بين قياداتها على النفوذ المالى والغنائم الاقتصادية فى ظل انفراد عائلة الغنوشى بالثروة الطائلة. وتقدر ثروة الغنوشى بملايين الدولارات ـ حسب التقارير الصحفية ـ فى ظرف تعيش فيه البلاد التونسية أزمة هيكلية فى منظومة اقتصادها. الثراء الفاحش للحاشية الضيقة للغنوشى خَلق حالة من الاحتقان لدى قواعد حركة النهضة التى تقلصت من مليون وأربعمائة ألف عام 2011 إلى 400 ألف فى الانتخابات التشريعية الأخيرة. ويرى مراقبون أن منهجية حركة النهضة لا تبدو واضحة المعالم فى تعاملها مع المشاورات الحكومية، وذلك لأن مواقفها متخبطة بين الاقتراب من حزب "قلب تونس" أحيانًا وأحيانًا أخرى مغازلة الأطراف المتشددة دينيّا على غرار ائتلاف الكرامة.. كعادة التيارات المتأسلمة حول العالم.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق