الخميس 10 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بدايات «صنوع».. وحكايات صفصف!

الحقيقة الغائبة فى تاريخ الضحك

بدايات «صنوع».. وحكايات صفصف!

 فى كتابه البديع (عجائب الآثار فى التراجم والأخبار)، يكتب المؤرخ المصرى الشهير "عبدالرحمن الجبرتى" وهو يؤرخ لحوادث شهر ديسمبر من عام 1800، هذه الفقرة:  (وفيه كمل المكان الذى أنشأه- يقصد الفرنساوية- بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء. وهو المسمى فى لغتهم بالكمدى- يقصد الكوميدى- وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عَشر ليالٍ، ليلة واحدة، يتفرجون فيه على ملاعيب- يقصد تمثيليات- يلعبها جماعة منهم، بقصد التسلى والملاهى مقدار أربع ساعات من الليل، وذلك بلغتهم، ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة- يقصد التذكرة.



هذه الفقرة من كلام "الجبرتى"، هى أول إشارة تصلنا عن بدايات المسرح فى مصر، هذا المسرح الذى ابتدأ كوميديا، واستمرت الكوميديا تمثل الجانب الأكثر تشويقًا فى تاريخنا المسرحى كله. جميع الذين أرَّخوا لحياة وفن "يعقوب صنوع" استقوا معلوماتهم عنه، مما كتبه هو عن نفسه، ومن يقرأ ما كتبه "صنوع" عن نفسه، سيكتشف بقليل عناء أنه شديد المبالغة، حتى إنه لن يستطيع تصديق كثير مما قاله، فكيف يمكننا مثلا أن نصدق أنه قبل أن يبلغ العشرين من عمره، كان قد أتقن ثلاث عشرة لغة إتقانًا تامّا، لدرجة أنه استطاع أن يقرض الشعر فى هذه اللغات كلها!، بل استطاع أن ينشر هذه الأشعار فى المجلات الأوروباوية التى كانت تفرد له المساحات الكبيرة لتقريظه، وذلك بسبب امتلاكه لأسرار اللغة الخاصة، ومعرفته لأوزان شعرها!، أمّا ريادته للمسرح العربى، فهو الأمر الذى يصر "صنوع" على إثباته دائمًا فى الكثير من المناسبات، وقد أخذ المؤرخون عنه هذه المقولة، حتى باتت من الأمور المُسَلم بها. ونحن لسنا فى مقام التأريخ، بقدر ما نحن فى مقام القراءة، نقرأ ما هو متاح أمامنا؛ لنقف على الجوانب غير المعروفة فى بدايات تاريخنا المسرحى. أول مرة فى بدايات عام 1880، وقف "يعقوب صنوع" للمرّة الأولى على خشبة المسرح، كان الممثلون فى فريقه التمثيلى يعانون من بعض الارتباكات، وكانوا يخشون مواجهة النظارة "الجمهور"، خصوصًا أن بعضًا منهم كان يرتدى الملابس النسائية، ويصبغ وجهه بالمساحيق؛ ليؤدى دورًا نسائيًا، أدرك "صنوع" أن عليه دورًا إضافيًا، فأشار للعامل برفع القماشة التى كأنها ستارة، ووقف فى منتصف الخشبة تمامًا؛ ليخطب فى الجمهور، ويوضح لهم أن ما سيشاهدونه الآن ليس حقيقة، ولكنه تمثيل، وأن الممثلين الذين سيمثلون، سيقومون بأدوار لا علاقة لها بحقيقتهم، وبدأ يقدم أعضاء فرقته للجمهور، ولما صفق الناس، استرد الممثلون ثقتهم، واندمجوا فى التمثيل. مرّة كلف "صنوع" أحد الشباب ليقوم بدور المُلقن، وقد كان هذا المُلقن غير متزن، وكان يخلط فى التلقين بين الشخصيات، ما أصاب المسرحية بارتباك نتج عنها ضحك متواصل من الجمهور، ومما زاد الطين بلة، أن هذا المُلقن، لم يكتف بالتلقين، وإنما أراد أن يقلد المخرج، فكان يقوم بتوجيه الإرشادات للممثلين، فيخلط الممثلون بين كلام النص المسرحى، والإرشادات الإخراجية، فيقولونها فى كلامهم، فيزداد ضحك الجمهور، لكن المُلقن اندمج أكثر وأكثر، وخرج من مخبئه الكواليسى، وأطل برأسه إلى بطل العرض، وخاطبه بصوت عالٍ أمام الجميع: لماذا تسرع فى إلقاء الكلام هكذا، ألا تعرف أن العَجلة من الشيطان؟!. هنا لم يجد "صنوع" بُدًا من التدخُل، فقفز إلى الخشبة، وشد المُلقن الذى يظن نفسه مخرجًا، من أذنيه، وسار به إلى خارج المسرح، لكن المُلقن غافله، وقذف بمخطوطة المسرحية فى وجه الممثل، وانسل من أيدى "صنوع" متجهًا للممثل الذى لا يتبع إرشاداته الإخراجية، ونشب بينهما عراك بالأيدى، والجمهور غارق فى الضحك.. الغريب أن الجمهور فى اليوم التالى، طالب الممثلين بتمثيل ما حدث بالأمس، فاضطر "صنوع" إلى ارتجال موقف ينتهى بقذف المُلقن بمخطوطة المسرحية فى وجه البطل، وكان الجمهور فى غاية الانبساط. كان "يعقوب صنوع" قد استطاع أن يقنع فتاتين بالعمل فى مسرحه كممثلتين، وقد استطاع أن يعلمهما القراءة والكتابة فى شهرين اثنين فقط، (لنغض الطرف الآن عن هذه المبالغة)، وضمهما بالفعل إلى فرقته. هدف أخلاقى المسرح فى ذلك الوقت كان وليدًا، وكانت الدنيا بسيطة، وكان بإمكان المشاهد لهذه العروض أن يفرض رأيه فى أحداث الحكاية الممثلة، وفى إحدى المسرحيات التى تتحدث عن المرأة العابثة اللعوب التى تلعب بأفئدة الرجال، وتخرب البيوت العمرانة، ظهرت إحدى هاتين الفتاتين لتقوم بدور الفتاة العابثة، ولما كان الهدف الأخلاقى مُهمًا جدًا فى عروض المسرح، فقد كان من الطبيعى أن تلقى هذه الفتاة النهاية التى تليق بأمثالها، فساءت سُمعتها، وهجرها الناس كلهم، وأصبحت تعيش وحيدة بائسة فقيرة، الفتاة التى قامت بالدور كان اسمها "صفية"، وكانت الناس تطلق عليها لقب "صفصف"، وكانت رقيقة وهامسة وجميلة، حتى إن الناس كانت بمجرد أن تطل على المسرح، تصفق إعجابًا بها، ولما رأى الناس النهاية الحزينة لبطلتهم، ظلوا يصفرون ويخبطون بأرجلهم، فطلع عليهم "صنوع" من وراء الكواليس ليستفسر عن سر غضبهم، فانبرى له أحد النظارة قائلًا: هل فتاة مثل "صفصف" هذه برقتها وعذوبتها لا تجد من يتزوجها؟، إنك رجُل ظالم وتضحك علينا. وصفق الجمهور تضامنًا مع رأى زميلهم، وفى اليوم التالى، اضطر "صنوع" أن يزوجها من بطل المسرحية الذى خربت بيته، مخالفًا بذلك المنطق الفنى الذى أنشئت الرواية من أجله. كان فى فرقته ممثل عاشق لإحدى الممثلات، أمّا هى فقد كانت تكرهه جدًا، وتصادف أن كان دورها فى المسرحية أنها تحبه، فوقفت أمامه، وهى تقول له بكثير من الهيام: اسأل نجوم السماء التى تحاكى جمالك عن سهادى، يا نور عينى الذى يعشقك قلبى وتعبدك روحى، لن تسحر الفتيات بنظراتك الإلهية وابتسامتك الملائكية، الرحمة بعصفورتك، ودعها تؤمل أن تكون عبدة حبك، ولو أنى كنت واثقة من زيارتك لقبرى لرجوت الله أن يسترد إليه روحى. الممثل من ناحيته، نسى المسرحية والمتفرجين وهو يستمع ممن توله فى حبها، لهذا الكلام الذى يذيب الحجر، فقال لها باللغة المسرحية نفسها: ليبارك الله المسرح الذى جعلك تتنازلين عن كبريائك، ويضطرك لأن تبوحى لى بحبك أمام آلاف الناس. الممثلة لم ترد عليه بالكلام، وإنما صفعته على وجهه صفعة دوى دويها فى الأرجاء كلها، ولم تكتف بذلك، بل توجهت للجمهور قائلة: إن كلمات الحب التى وجهتها لهذا الغبى، لا تعبر عن إحساسى الحقيقى، فإنى أوثر العَمى على حبه، إن مؤلف الرواية "يعقوب صنوع" هو الذى وضع تلك الكلمات على لسانى. الجمهور راقَ له هذا الخروج عن النص، وأصبح فى كل يوم يطالب الممثلين بمشهد الصفعة، وتوالت الصفعات، لكن الغريب فى الأمر، أن هذه الصفعات قرّبت بين العاشقين المتنافرين، وتحابا بالفعل، حتى إن "صنوع" نفسه اضطر فى أحد العروض أن يعلن على الجمهور خبر زواج الممثلة والممثل بنفسه. أكثر المواقف غرابة، فهو ما حدث فى مسرحية (ليلى)، التى تحكى عن رجل يقتل أبناء سيد القبيلة الأربعة، وكان البوليس قد عيّن اثنين من رجال الشرطة لحراسة المسرح، فهمس أحد المتفرجين الخبثاء لهما: أترضيان أن يقترف هذا المجرم جريمته هكذا أمامكما، وأنتما ساكتان؟!. فغلى الدم فى عروقهما، ونطا على خشبة المسرح، وقبضا على الممثل المجرم الذى يقتل الناس علانية أمام الجميع، وأصرّا على جره للتمن "قسم الشرطة" لينال عقابه الرادع. اثنان من الباحثين اهتمّا اهتمامًا خاصًا بمسرح "يعقوب صنوع"، الأول، الدكتور "إبراهيم عبده" الذى التقى فى باريس بابنته السيدة "لولى صنوع"، أو "صنوا ملهو" كما تُعرف فى الأوساط الباريسية، التى أمدته بكل ما تملكه من تراث أبيها، نصوص مسرحية، ومذكرات، وجرائد، ومراسلات، وقدّم لنا كتابه البديع (أبو نظارة، إمام الصحافة الفكاهية المصورة، وزعيم المسرح فى مصر)، الصادر عام 1953، وإن كان لم يخف حقيقة المبالغات التى فى سيرته الذاتية. أمّا الباحث الثانى، فهو الدكتور "سيد على إسماعيل"، الذى أصدر كتابه (محاكمة مسرح يعقوب صنوع)، عام 2015، والذى يهدم فيه كل ما نعرفه عن ريادة "يعقوب صنوع" للمسرح المصرى، ويؤكد أن كل ما يقال عنه إن هو إلّا من نسج خياله عن نفسه، ويؤكد فى بحثه العلمى الرصين، أنه عاد إلى جرائد تلك الفترة، فلم يجد شيئًا يُذكر عنه.  

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق