الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

.. وكان المتفرج يحضر كرسيه إلى المسرح

جورج.. وعزيز

شهدت مصر فى بدايات القرن العشرين نهضة مسرحية حكمت المصادفة أن تكون على يد اثنين من أصول شامية، هما جورج أبيض "1880-1959" وعزيز عيد "1884-1942"، اللذان مثلا جناحَى النهضة المسرحية التى شهدتها مصر، وتركا خلفهما إرثا فنيًا لا يُقدَّر بمال، وتلامذة نهلوا منهم حب المسرح والتضحية لتقديم فن يُرضى ضمائرهم قبل إرضاء جماهيرهم.



وحملوا من بعدهم راية الفن، وذهبوا بالمسرح المصرى والعربى إلى آفاق عالمية.

 

عندما نعود بالزمن بحثًا عن بدايات المسرح فى الثقافة العربية، ستكشف لنا الدراسات الأدبية أن العرب اكتفوا قديمًا بالشعر والخطابة، وانتقل المسرح لثقافتنا العربية من الغرب فى أواخر القرن التاسع عشر، وتم تأصيله فى بدايات القرن العشرين، وكطبيعة الفنون الغريبة تكون بداياتها نقلا وتقليدًا، ثم تعريبًا، إلى أن يتشعب المجتمع بهذا النوع الجديد الوافد عليه ويهض. تحدى المجتمع لم يكن الفن وقتها جاهًا ومالًا وشهرةً، بقدر ما كان تحديًا للمجتمع، ومعاناة مادية، ومثل أى فنان حقيقى فى هذه الفترة قاسى جورج وعزيز فى سبيل عشقهما للفن، دفعا من عمرهما وراحتهما الكثير من أجل رسالة آمنا بها، وإن اختلفا فى اتجاهاتهما الفنية، وتميز كل منهما عن الآخر فى أمور، فإن هناك العديد من نقاط التشابه التى جمعت بينه، وجورج هو السابق زمنيًا، وصاحب الرصيد الأكبر من الإنجازات التى حققها على مدار حياته التى امتدت لما يقرب الثمانين عامًا، مقابل 58 عامًا لرفيقه عزيز عيد. وُلد جورج أبيض فى بيروت بلبنان وهاجر إلى مصر فى الثامنة عشرة من عمره، حاملا شهادة دبلوم فى التلغراف، لكنه كان يحمل معه شيئًا أكثر قيمة، وهو بذور الإبداع التى سرعان ما بدأت فى النمو والظهور، عمل بمحطة السكك الحديدية بالإسكندرية صباحًا، والتحق بفرق المسرح التى كانت تقدم عروضًا مترجمة مساءً. وفى عام 1904 بعث جورج إلى الخديو عباس حلمى الثانى ثلاث رسائل يشرح فيها أوضاع الفِرَق التمثيلية ويطلب منه الموافقة على سفره إلى باريس فى بعثة دراسية على نفقة الدولة ليتعلم فيها أصول التمثيل، ووَجَّه له الدعوة لحضور مسرحية سياسية مترجمة بعنوان "برج نيل"، وأعجب به الخديو وقرر الموافقة على طلبه وإيفاده فى بعثة دراسية إلى باريس لدراسة فن التمثيل، وهناك التحق بـ"الكونسرفتوار"، حيث درس التمثيل والإخراج والموسيقى وعاد إلى مصر عام 1910، على رأس فرقة فرنسية تحمل اسمه وعرض مسرحيات من روائع المسرح العالمى باللغة الفرنسية. بينما وُلد عزيز عيد 1884 فى كفر الشيخ، لوالد من أصول لبنانية، هاجرت أسرته إلى مصر، نجح والده فى الزراعة والتجارة حتى أصبح من أغنياء إقليم الغربية، وتعلّم ابنه عزيز فى المدارس الفرنسية حتى أجاد اللغة، ثم أرسله والده إلى لبنان ليكمل دراسته الجامعية هناك، وعاد ليجد والده وقد خسر كل ثروته فى مضاربات البورصة، فالتحق بوظيفة فى بنك التسليف الزراعى لكن هواية التمثيل شغلته عن كل شىء، فدرس المسرح عن طريق قراءة أمهات الكتب المسرحية باللغة الفرنسية، بالإضافة لدراسته للمسرحيات الفرنسية الكلاسيكية، وكذلك روائع شكسبير، وعمليًا أخذ يشترك بالتمثيل فى بعض المسرحيات، التى كانت تقدمها كبرى الفرق المسرحية الفرنسية على دار الأوبرا الملكية، فعرف أسرار التمثيل من كبار فنانى فرنسا فى نهاية القرن إلى 19 وبداية القرن العشرين. اختيار الطريق عاد جورج أبيض إلى مصر بعد ست سنوات قضاها فى دراسة الفن فى فرنسا، ومعه فرقة تمثيل فرنسية قدّم معها عددًا من الأعمال الكلاسيكية على مسرح دار الأوبرا فى القاهرة، ومن ثم فى الإسكندرية، وطلب منه سعد زغلول، الذى كان آنذاك وزيرًا للمعارف، تشكيل فرقة مسرحية تقدم أعمالا باللغة العربية، فقام جورج بالمهمة على خير وجه، وقدّم مع فرقته الجديدة، التى تكلف إنشاؤها وقتها مبلغًا كبيرًا وصل لـ10 آلاف جنيه، ثلاث مسرحيات عالمية هى "أوديب الملك" لسوفكليس، و"لويس الحادى عشر" لكازمير دى لارفني، و"عطيل" لشكسبير، فأصبح جورج من وقتها الممثل الرسمى للمسرح المصرى. استخدم جورج فى هذه المسرحيات فرقة موسيقية وترية بقيادة عبدالحميد على، وفرقة راقصة كانت تقدّم رقصاتها خلال المَشاهد التى تتطلب ذلك. وهو أول من عنى بالإخراج واهتم بالملصقات وإعلانات الفرقة، وبطبع برنامج خاص لكل حفلة، والتقيد بموعد لرفع الستارة. وكان لجورج أبيض فضل قيام عشر جمعيات مسرحية بعد ظهوره فى مصر، إذ لم يكن لسابقيه تأثير جوهرى على تقدّم الحركة المسرحية، فلم يصمد ويستمر سواه حتى أسّسَ فى النهاية مسرحًا راسخًا. وقدمت فرقة جورج أبيض أكثر من 130 مسرحية مترجمة ومؤلفة طوال 20 عامًا. أمّا عزيز عيد فترك الفِرَق الفرنسية التى عمل معها، وعمل مع عدة فِرق شامية ومصرية، وشارك معها بالتمثيل والإخراج الذى تعلّم أصوله من الفرنسيين، وقدّم عدة أعمال ناجحة، منها "عواطف البنين"، و"التيتجان"، و"الكابورال سيمون"، و"الولدان الشريدان"، و"الطواف حول الأرض"، كما استعانت به بعض الفِرق الأخرى لإخراج مسرحياتها، مثل فرقة الشيخ أحمد الشامى. لم تطل هذه المرحلة فى حياة "عيد" الفنية، فسرعان ما ضاق ذُرعًا بما يقدمه المسرح من مبالغات وما تشهده الفِرق من فوضى قد تصل لتغيير قصة المسرحية "الرواية"، كما كان يطلق عليها حينها إرضاءً للجماهير، وأراد أن يعود للفن كما تعلمه من الفرنسيين، فكوَّن فرقة تمثل باللغة الفرنسية، وضم إليها العديد من الفنانين الشباب الذين يجيدون الفرنسية، مثل: نجيب الريحانى، وبشارة واكيم، واستيفان روستى، وقدّموا عدة روايات نالت إعجاب المتخصصين الأجانب. تأثير الحرب كجميع مناحى الحياة فى مصر، تأثر الفن تأثرًا شديدًا بقيام الحرب العالمية الأولى، على المستويين المادى والمعنوى، فقد أفلست معظم الفِرق، ولجأت أخرى إلى تقديم فنون غير لائقة، وانتشرت المواخير والصالات التى تقدّم الفن الرخيص. فاتفق جورج أبيض والشيخ سلامة حجازى على دمج فرقتيهما، وأًصبحت الفرقة تُعرف بـ"أبيض وحجازى"، وكان من تلاميذه: نجيب الريحاني، ويوسف وهبى، وزكى طليمات، وروز اليوسف. وكانت فرقة عزيز عيد من الفِرق التى توقفت بسبب ظروف الحرب، فانضم إلى فرقة جورج أبيض وسلامة حجازى، باعتبارها الفرقة التى ظلت متمسكة بالقيمة المسرحية الأصلية، وأخرج معهما عدة مسرحيات.  رأت دولة تونس فى جورج أبيض الفنان المُعلم الذى يقدر على تأسيس الفِرق ونقل تجربته الفنية، فأسندت إليه عام 1921 الإشراف على تأسيس فرقتها القومية، كما استعانت به مصر فى عام 1935 فى إنشاء الفرقة القومية المصرية، وأصبح من أبرز نجومها مع زوجته دولت أبيض، وقدما معًا العديد من عروضها، حتى أحيل للتقاعد عام 1942. وكان "أبيض" من رُواد التمثيل السينمائى أيضًا، ففى عام 1932 قام ببطولة أول فيلم عربى غنائى ناطق اسمه "أنشودة الفؤاد"، وفى عام 1943 انتخب أول نقيب لنقابة الممثلين، وعندما افتتح المعهد العالى لفن التمثيل 1944 عُين جورج أستاذًا للتمثيل والإخراج، وفى عام 1952 عُين مديرًا للفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، ولكنه استقال عام 1953 لظروف صحية، وفى عام 1955 عُين مديرًا للفرقة القومية لمدة عام، ثم أستاذًا محاضرًا لفن الإلقاء فى المعهد العالى للفنون المسرحية، وقد ظل "جورج" يعمل بالتدريس فى معهد الفنون المسرحية إلى أن نقلوه منه مريضًا، حيث لزم الفراش إلى أن وافته المنية. وبعدما ترك عزيزعيد فرقة "أبيض - حجازى"، كوَّن مع أمين صدقى فرقة "الكوميدى العربى"، التى قدمت العديد من المسرحيات الخفيفة، منها: "خللى بالك من روميلي"، و"ياست ما تمشيش كده عريانة" وغيرها، وزاد من نجاح الفرقة انضمام سلطانة الطرب منيرة المهدية إلى الفرقة، وكانت أول مصرية تقوم بالتمثيل على المسرح؛ لأن كل من سبقنها كن غير مصريات، وكانت "منيرة" قبل الانضمام إلى فرقة عزيز عيد هى مطربة التخت المصرية الأولى، وكانت أغانيها تملأ الأسماع، فساهمت فى نجاح فرقة "الكوميدى العربى"؛ لأن عشاقها كانوا كثيرين وكان بينهم عدد من كبار رجال الدولة والوزراء وكانوا حريصين على متابعة أعمالها. بعد أن تركت منيرة الفرقة، فكر عزيز عيد فى أن يقدم فكرًا جديدًا فى المسرح فهداه تفكيره إلى تقديم مسرحية "خللى بالك من روميلي" على خشبة أول مسرح مكشوف فى مصر، فاستأجر جراجًا فى شارع الفجالة، ولم تكن فيه بالطبع مقاعد، وكان كل متفرج يأتى بكرسيه من منزله، ونجحت الفرقة نجاحًا كبيرًا لكنه لم يستمر لأسباب منها عدم ملاءمة المسرح المكشوف لطقس الشتاء، فأغلق المسرح وعاد "عزيز" لنقطة الصفر مرّة أخرى يكافح من أجل فن محترم. وعزيز عيد كان فنانًا أصيلا يعيش يومًا فى غنى، وآخر لا يجد قوت يومه؛ لأنه كان يفضل الفن على مال يأتى من فن رخيص، لهذا قدّم العديد من الأعمال الناجحة مثل أوبريت "العشرة الطيبة" لفرقة نجيب الريحانى، وكان بطلها الغنائى زكى مراد والد الفنانة ليلى مراد، والبطلة برلنتى، كما كان فيها من النجوم الكثيرون مثل، روز اليوسف، وحسين رياض وإستيفان روستى ومختار عثمان ونظلة مزراحى وغيرهم. وكاتب هذا الأوبريت هو محمد تيمور، وواضع أغانيه بديع خيرى، وكانت فكرته الأساسية تمجيد الفلاح المصرى، والسخرية على التجبر التركى، ولحن الشيخ سيد درويش الأوبريت، فكان دُرّة من دُرَر المسرح المصرى. عمل "عزيز" بعد ذلك مع يوسف وهبى مع افتتاح مسرح "رمسيس"، وكان من أسباب نجاحه ثم انفصلا، وظل الرجل يكافح حتى غادر دنيانا فى سنة 1942، بعد أن ذاق النجاح والعز، وعاش حياة أخرى مليئة بالحاجة والبؤس، فى سبيل تقديم فن راقٍ. وقالت عنه الفنانة والصحفية فاطمة اليوسف مؤسِّسَة "روزاليوسف" فى مذكراتها: "لا أعرف فنانًا مصريًا ضحَّى من أجل الفن مثل عزيز عيد، وتشبث بمبادئه الفنية فى جميع الظروف مثله، لم يكن فنانًا على المسرح فحسب، بل كان فنانًا فى حياته الخاصة وعلاقاته بالناس، فنانًا حتى أطراف أصابعه".

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق