السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«أهلى وزمالك» كوميديا زمان!

 مع نهايات الحرب العالمية الأولى وقُبيل قيام ثورة 1919 بقليل، شهد المسرح الكوميدى فى مصر نقلة نوعية مهمة ببزوغ نجمى اسمَيْن كبيرَين فى عالم الكوميديا، هما نجيب الريحانى وعلى الكسار. والرجلان يسبقهما تاريخ طويل من المحاولات والتجارب المسرحية وصولا إلى ما يمكن اعتباره مسرحًا كوميديًا مصريًا واضح الملامح.



 خَلق الرجُلان بعروضهما المسرحية حالة حراك فنى وتفاعل مجتمعى ربما كانت فريدة فى تاريخ الفرق المسرحية فى مصر والعالم، بفضل التلاسُن المسرحى خفيف الدم الذى تبارَى الرجُلان فى تقديمه بصورة لم يألفها المسرح المصرى لا من قبل ولا من بعد. وليس خافيًا على أحد، أن الكسار والريحانى هما ابنا جيل واحد من حيث الميلاد والتجربة، فالكسار من مواليد الثالث عشر من يونيو 1887 قبل ثلاث سنوات- على الأرجح - من ميلاد الريحانى الذى ليس له تاريخ دقيق لميلاده يمكن الاطمئنان إليه. والأول من مواليد حى السيدة زينب بينما مسقط رأس الثانى هو حى باب الشعرية، أى أن الاثنين ينتميان إلى بيئة شعبية ضاربة فى جذورها المصرية حتى إن كان فى أصول الريحانى نصف غير مصرى يخص الأب عراقى الجنسية.  لكن الاختلافات بين الرجُلين تبدأ من سنوات النشأة والتعليم، إذ لم يتلق على خليل سالم- اسم الكسار الحقيقى- أيًا من التعليم النظامى، مكتفيًا ببعض الأسابيع التى أمضاها فى كُتّاب الحى، بينما حصل نجيب إلياس ريحانة- وهو الاسم الحقيقى لنجيب الريحانى- على البكالوريا من مدرسة الفرير بالخرنفش وخرج إلى الحياة العملية متسلحًا بإجادة اللغتين العربية والفرنسية. وعليه؛ فإن الحياة قادت الكسار إلى العمل مع خاله كمساعد طباخ فى بيوت بعض الوجهاء، فيما عَرف الريحانى عالم الوظيفة والموظفين فى شركة السكر بنجع حمادى وبنك التسليف الزراعى، وهى خبرات تعليمية وحياتية متباينة كانت لها آثارها على تجربة الرجُلين فى عالم الفن بعد ذلك. تجربة الكسار فى بداياتها كانت أقرب إلى تجارب الهواة، حيث تحوّل تعلقه بمتابعة العروض المسرحية التى كانت تقدمها بعض الفرق على مسارح منطقتَى السيدة زينب والحسين إلى مشاركة فى تلك العروض، حيث كون فريقًا صغيرًا قدّم عروضه على دار التمثيل الزينبى. وشيئا فشيئا بدأ الناس يعرفون هذا الممثل الناشئ، وأخذ هو يفكر فى خطوته التالية. ولم تكن هذه الخطوة سوى انضمامه إلى جوق الأوبريت الشرقى التى كانت تقدم عروضها على كازينو "دى بارى" فى شارع عماد الدين، وبانضمام الكسار إلى هذه الجوق أصبح اسمها "جوق مصطفى أمين وعلى الكسار" بدءًا من 16/2/1917 ليبدأ الكسار منذ ذلك التاريخ مسيرته الاحترافية فى عالم التمثيل التى عرفت النجاح الفعلى مع انتقاله بفرقته المستقلة للعمل على مسرح الماجستيك ابتداءً من 6/1/1919 بمسرحية "ليلة 14" التى حولتها الرقابة على المطبوعات إلى "القضية نمرة 14" وبعدها عاش الكسار سنواته السمان فى تاريخ المسرح المصرى التى امتدت تحديدًا عام 1925 قبل أن يدخل فى سنوات تأرجحه الفنى. أمّا نجيب الريحانى فقد تأرجح مبكرًا مشواره لسنوات بين الهواية والاحتراف. فحين كان موظفًا فى بنك التسليف الزراعى التحق كهاوٍ عام 1908 بالفرقة التى كوّنها زميله فى البنك عزيز عيد، وحين كان يتم فصله من وظيفته لأسباب فنية أو أخلاقية كان يعطى وقته كله للتمثيل وتعريب النصوص الفرنسية، إلى أن حسم أمره تمامًا وتفرّغ لعمله بالفن فى حدود عام 1915 بانضمامه إلى فرقة الكوميدى العربى التى قدّمت أول عروضها تحت عنوان "خللى بالك من إيميلى"، إخراج عزيز عيد. تشابه المسيرة من جديد يعود التشابه فى مسيرة الكسار والريحانى عند الخطوة الجبارة التى صنعت شهرة كل منهما حين وقع الاثنان- كل على حدا- على الشخصية النمطية التى قادته إلى الجماهيرية والنجاح. فأصبح على الكسار هو عثمان عبدالباسط بربرى مصر الوحيد، فيما بات نجيب الريحانى هو كشكش بيه عمدة كفر البلاص فى وقت كانت فيه الكوميديا المسرحية ومن بعدها السينمائية ترحب بمثل تلك الشخصيات النمطية على غرار شخصية  "المعلم بحبح" التى عُرف بها الممثل فوزى الجزايرلى. ويحكى الكسار فى حوار له أعيد نشر أجزاء منه فى مجلة الهلال عام 1967 عن بداية نشأة شخصية "عثمان عبدالباسط بربرى مصر الوحيد " أن عمله فى مرحلة صباه صبى طباخ أتاح له الاختلاط بطائفة السفرجية والطباخين والخدم فى القصور، فعرف طباعهم وأتقن لغتهم، خصوصًا النوبية المختلطة بالعربية". وأضاف أنه اختزن كل هذه الخبرات حتى أتاه دور فى إحدى المسرحيات عند بداية عمله على مسرح الماجستيك فى شارع عماد الدين سنة 1919، فاستعاد كل ما كان يعرفه عن هذه الطائفة، وأعطاها من روحه ومظهره الخارجي، فإذا بتلك الشخصية تحقق نجاحًا كاسحًا مع الجماهير. ومن يومها أصبح الكسار وعثمان عبدالباسط شخصية واحدة. ولأن الريحانى قد ترك لنا أكثر من مذكرات تحكى سيرة حياته بعكس الكسار الذى لم ينتبه لمثل تلك الخطوة، فقد أمكننا على وجه الدقة التعرف على تفاصيل ولادة شخصية "كشكش بيه". يقول الريحانى فى مذكراته التى نشرتها مجلة الاثنين فى نوفمبر 1936: "لست أدرى أكنت فى تلك اللحظة نائمًا أو مستيقظا، وإنما الذى أؤكده أننى رأيت بعينى خيالًا كالشبح يرتدى الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت فى نفسى: ماذا لو جئنا بمثل هذه الشخصية وجعلناها عماد روايتنا؟ يكمل: «ولم أتوان فى نفس الدقيقة، وكانت الساعة الخامسة صباحًا فقمت من فراشى وأيقظت أخى الأصغر، وكان لى خير عون وساعد، ورحت أملى عليه هيكل الموضوع الذى صممت على إخراجه، وكان عبارة عن أن عمدة من الريف وفد إلى مصر يحمل الكثير من المال فالتف حوله فيها فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته يعض بنان الندم ويقسم أغلظ الأيمان أن يثوب إلى رشده وألا يعود إلى ارتكاب ما فعل". ويضيف: "لما أشرف الخواجة روزانى صاحب ملهى "الإبيه دى روز" على الإفلاس، وكاد يقفل الملهى توجهت إليه أرجو التأجيل بضعة أيام حتى أضع رواية تكون الداء الشافى لداء الكساد، فقبل الرجُل ما اقترحت عليه، فكان أن وضعت أولى روايات كشكش بك، وكانت عبارة عن سكيتش فكاهى يستغرق عشرين دقيقة موضوعه كما ذكرت، وكان اسم الرواية "تعاليلى يا بطة"، ومنذ ذلك اليوم ولدت شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص". شخصيات نمطية إذن أصبح الآن على الساحة نموذجان للكوميديا يتكئ كل منهما على شخصية نمطية قوامها طريقة محددة فى الكلام والملبس والحركات التى تؤديها على المسرح. لدينا الآن ونحن فى حدود عام 1918 على الكسار بشخصية عثمان عبدالباسط بربرى مصر الوحيد ومعه مؤلف رواياته أمين صدقى يقدم عروضه على مسرح "دى بارى" ومنه إلى مسرح "الماجستيك" فى شارع عماد الدين، فى مقابل فريق آخر قوامه نجيب الريحانى بشخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص ومعه مؤلف رواياته وأزجاله بديع خيرى يقدم عروضه أولًا على مسرح " إبيه دى روز " ثم "رينيسانس" قبل أن يبنى مسرحه الشهير "الإجبسيانة " فى شارع عماد الدين أيضًا. لكن الريحانى استطاع فى هذه الفترة أن يضيف إلى فريقه أحد العناصر المهمة فى نجاحه الفنى وفى توليفته الجماهيرية وهو الموسيقار سيد درويش قبل أن يجمع خالد الذكر بين العمل فى فرقتى الريحانى والكسار. وخلق تجاور مسرحى الريحانى والكسار فى شارع عماد الدين وتشابه اللون الكوميدى الذى يقدمانه حالة من التنافس القوى بين الفرقتين وصلت إلى حد التراشق أو التلاسن اللفظى فى عناوين الروايات التى تقدمها كل فرقة. وللتاريخ؛ فإن الريحانى هو الذى ابتدع هذه الظاهرة ليس مع الكسار، وإنما مع الخواجة روزانى صاحب ملهى "إبيه دى روز" الذى كان يعرض عليه الريحانى رواياته قبل انتقاله إلى مسرحه، فقد حدث خلاف حاد بين الاثنين وصل إلى ساحة القضاء، وأراد نجيب أن يغيظ الخواجة روزانى فأخرج رواية أطلق عليها اسم "ابقى قابلنى" ويحكى الريحانى فى مذكراته عن اكتشافه هذا قائلا : "ولعله من المناسب هنا أن نقول أن تلك التسمية (يقصد رواية "ابقى قابلنى") كانت بداية لاكتشاف جديد فى عالم التمثيل، وهو مراعاة التأويز والتريقة على الغير باستعمال اصطلاحات وأمثال يذهب الخصوم فى تفسيرها مذاهب شتى ويطبقونها على ما يكونون فيه من حالة نفسية، ولقد انتشر هذا الاكتشاف انتشارًا سريعًا حتى صار قاعدة أو تقليدًا أو دستورًا للفرق حين اختيارها أسماء رواياتها، إذ كانت كل واحدة تراعى فى هذه التسمية أن ترد ردًا محكمًا الاسم الذى تكون الفرقة الأخرى قد اختارته لروايتها الجديدة، وهلم جرا". أمّا على الكسار فقد علق على هذه الظاهرة فى حوار له مع مجلة الصباح فى أغسطس عام 1947 قائلا: "كانت أيام جميلة، وكنت أنا وأخى نجيب الريحانى نتبارز بعناوين مسرحياتنا، وكان هذا ينال إعجاب الجمهور ويحظى بتعليقاتهم، ونجيب هو الذى بدأ هذه الحكاية وكان لازم أرد عليه، أمّال أسيبه كده يقول لوحده وأنا أسكت؟! كان بربرى مصر الوحيد وكشكش عاملين جو حلو جدا فى شارع عماد الدين.. فين الأيام دى دلوقتى؟!". تراشق متبادل تقول المصادر المتاحة أن التراشق بين الريحانى والكسار بلغ أشده بالتزامن تقريبًا مع أحداث ثورة 1919، فبعد حالة من التراجع شهدها مسرح الريحانى عاد إليه الانتعاش من جديد فقدم مسرحية بعنوان "فرجت" من تأليفه مع بديع خيرى، فرد عليه الكسار بمسرحية من تأليف أمين صدقى أطلق عليها "راحت عليك". وعندما قدم الريحانى مسرحية "قولوله" رد الكسار بمسرحية "قلنا له"، ثم قدّم الأول مسرحية "الدنيا جرى فيها إيه!" فسارع الآخر بتقديم مسرحية "الدنيا بخير".. وهكذا حتى وصل التراشق أو التلاسن إلى "ولو" و"فشر" و"كله من ده" و"ولسه". ومَهما يكن فإن هذا التأويز كما سَمّاه الريحانى خَلق حالة فنية لطيفة بين جمهور المسرح فى ذلك الوقت انسحب إلى أحاديثهم فيما بينهم بين مشجع لهذا أو ذاك كما لو كان كل من الريحانى والكسار أقرب إلى الأهلى والزمالك فى عالم كرة القدم. المدهش أن تلك المنافسة القوية أو الندية الواضحة بين الريحانى والكسار أخذت فى التراجع مع مرور السنوات، فمالت الكفة لصالح الريحانى الذى بقى أثره قويًا حتى اليوم رُغم مرور سبعين عامًا على رحيله، وهذا يعود- فى ظنى-  إلى أمرين مهمين، أولهما أن الكسار ظل حتى سنوات متقدمة من عمره أسير الشخصية النمطية لبربرى مصر الوحيد عثمان عبدالباسط سواء فوق خشبة المسرح أو على شاشة السينما، وحتى إذا حاول الخروج على تلك الشخصية لم يكن يبتعد عنها كثيرًا بالارتماء فى أحضان شخصية الخادم على النحو الذى رأيناه- مثلا- فى فيلم "رصاصة فى القلب" مع محمد عبدالوهاب سنة 1945. بينما تخلص الريحانى سريعًا من شخصية كشكش بيه فى كل من السينما والمسرح بعد أن استفدت أهدافها، وسعى إلى تقديم نوعيات مختلفة من الأدوار والشخصيات قضت على أى ملل يمكن أن يتسرب لدى المتلقى جراء تقديم الشخصيات النمطية. الأمرُ الآخر هو الفارق بين الريحانى والكسار من حيث المستوى الثقافى والتعليمى، فقد كان الريحانى مجيدًا لكل من الفرنسية والعربية ومُلمًا بالإنجليزية وواسع الثقافة والاطلاع فى شتى مجالات الحياة بتلك اللغات وقادرًا على كتابة أعماله بنفسه واختيار بل تفصيل ما يناسبه من أدوار، بينما الكسار بحظه القليل من المعرفة كان تابعًا لاختيارات مؤلفى مسرحياته، خصوصًا أمين صدقى، وهذا أمر فى غاية الأهمية لكل فنان مَهما كانت موهبته، والأمثلة كثيرة فى حياتنا الفنية، وكيف حسمت ثقافة الفنان حتى لو كانت سمعية المنافسة لصالحه رُغم قوة موهبة منافسيه. خذ لذلك مثلا أم كلثوم بين منافساتها منيرة المهدية وفتحية أحمد وحياة صبرى وغيرهن، أو عبدالحليم حافظ وسط أقرانه عبدالغنى السيد وعبدالعزيز محمود ومحرم فؤاد ومحمد رشدى وعبداللطيف التلبانى وعادل مأمون وماهر العطار، وهكذا. على أى حال؛ فإن على الكسار استطاع ببساطته أن يخلق لعدة سنوات حالة فنية تقف ندا قويًا أمام قامة كبيرة كنجيب الريحانى مَهما كانت الفوارق بين الرجُلين، وإذا كان بربرى مصر الوحيد لم يستطع أن يدير موهبته الفطرية بالصورة المُثلى بعكس الريحانى فيكفى الاثنين أنهما كانا عنوانًا عريضًا للضحك والكوميديا فى النصف الأول من القرن العشرين.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق