هشام يحيى
سمير خفاجى.. المليونير الفقير
صانع النجوم الذى تخلى عنه الجميع!
أكثر ما استوقفنى فى مذكرات المنتج والكاتب سمير خفاجى "أوراق من عمرى"، سواء الجزء الأول أو الثانى، الذى ظهر بالعنوان نفسه، إن "خفاجى" منح الرقيب الشخصى إجازة وتخلى عن الدبلوماسية، التى تفرض سيطرتها على كثير من الفنانين وهم يسجلون مذكراتهم! من صفحات الجزء الأول تملكنى شعورٌ إننى أمام رجُل يسجل شهادته للتاريخ. وليس مجرد "فضفضة" فى نهاية العمر بحثًا عن الهدوء، أو استراحة محارب عاش خمسين عامًا فى كواليس المسرح المصرى.
خفاجى كان عاشقًا للمسرح سواء فى مسارح التليفزيون الذى قدّم فيه أنجح عروضه المسرحية، أو من خلال مغامرته الأكبر عندما بدأ فى تكوين فرقة "الفنانين المتحدين"، هذه الخطوة التى اعتبرتها مؤسسات وزارة الثقافة تهديدًا لمسارحها، ونشاطها الثقافى والمسرحى، ووجَّه له وزملائه الفنانين والفنانات تهمة التمويل من جهات أجنبية، حتى إن الناقد الكبير على الراعى فى ندوة أقيمت بالمؤسسة الصحفية العريقة "دار الهلال" حضرها كُتّاب الدار الكبار، قال: "نريد أن نطمئن على سلامة التمويل". فى بيت خفاجى "بالدقى" عندما ذكرته بهذه الواقعة ونحن نتناقش فى المذكرات.. ضحك كثيرًا وقال لى: "وهم يتهمونى بالتمويل.. كنت لا أمتلك فى جيبى عشرة جنيهات.. وانتهزت هذه الندوة فرصة للاستيلاء على سجائر الفنانة شويكار التى كانت تجلس بجوارى؛ لأنى لم أكن أمتلك أموالًا كافية لشراء علبة سجائر". اتهام التمويل لم يكن آخر اتهام.. فبَعد سنوات طويلة، تم اتهام "المتحدين" بأنها وراء إفساد الشباب المصرى، والأجيال الجديدة بعد عرض مسرحية "مدرسة المشاغبين" للكاتب على سالم والمخرج جلال الشرقاوى، خصوصًا أن المسرحية حققت نجاحًا جماهيريًا غير مسبوق، وظهر معها لأول مرة حجز تذاكر المسرح فى السوق السوداء، وتذاكر من دون جلوس على مقاعد، ولكن للوقوف فى الممرات، والجلوس على الأرض؛ لأن التذاكر كانت "كاملة العدد" ثلاث أشهُر مقدمًا. وبعيدًا عن محتوى المسرحية، لا أحد ينكر أنها أحدثت انقلابًا فى المسرح المصرى، ساهم فى تغير خريطة النجومية، وفتح الطريق أمام نجوم جُدُد احتلوا الصدارة، وأصبحوا نجوم الشباك "عادل إمام، سعيد صالح، يونس شلبى". سبق ووضعنى "خفاجى" فى كواليس "المشاغبين" قائلًا: "لأول مرّة قمت بتوقيع عقود لرواتب شهرية لنجوم الفرقة.. مثلًا: عبدالمنعم مدبولى 650 جنيهًا، لتقديم شخصية "الناظر" قبل استبداله بـ حسن مصطفى، بعد أن سيطرت على مدبولى الغيرة الشديدة من النجاح الذى يحققه الشباب الجُدُد على المسرح يوميًا، وبسبب مساحة دوره الصغير مقارنة بأدوارهم كان يجلس كثيرًا فى الكواليس، لافتعال المشاكل والأزمات". أيضًا تم التعاقد مع سعيد صالح بـ 80 جنيهًا، وعادل إمام 70 جنيهًا، وبقية "المشاغبين" يونس شلبى وهادى الجيار وأحمد زكى 20 جنيهًا فى الشهر! وكان سعر التذكرة فى هذه الأيام 51 قرشًا، وعدد المقاعد 900. وبالنسبة للدور النسائى الوحيد فى العرض الذى قدمته سهير البابلى، عرض أولًا على النجمة نجلاء فتحى، وبالفعل بدأت مُشاورات مكثفة مع المنتج رمسيس نجيب، الذى كان شبه محتكرها للعمل معه ولكن المفاوضات انتهت بالفشل، بعد أن خافت "نجلاء" من عدم الالتزام اليومى فى المسرح. أوراق العمر أذكر أنه خلال هذه الجلسة مع سمير خفاجى.. لقراءة صفحات محددة فى مذكراته "أوراق من عمرى" اعترف أننى قلبتُ عليه المواجع، وفتحتُ جروحًا، وضغطتُ على مناطق تسبب له كثيرًا من الألم، خصوصًا عندما وصل فى اعترافاته أو شهادته للتاريخ إلى النقطة الأكثر حرجًا والتى يهرب منها الجميع، الأدلاء بالرأى فى رفقاء الرحلة، وهنا تختلط الكتابة بالمرارة والحزن، سواء على الذين رحلوا عن الحياة، أو الذين رحلوا وهم أحياء، على حد زعمه، مثل عادل إمام الذى كان بالنسبة له فى مشواره المسرحى حسب وصفه مثل "رمسيس نجيب" منحه الفرص، وسانده. يقول نصًا: "تغير عادل كثيرًا بعد مسرحية (الواد سيد الشغال) لم يعد هو الذى تعاقد على أول فيلم (أنا وهو وهى) مقابل 30 جنيهًا، متساويًا مع أجر الضيف أحمد".. قبل (شاهد ماشفش حاجة) كان يستشيره ويعود إليه، ويقتنع برأيه، لكن تغير الحال وأصبح لا يسمع إلّا نفسه! ويتحكم برأيه، ما شكل عبئًا نفسيًا عليه وكان أحد أسرار مرضه والحالة الصحية التى وصل إليها، بعد أن تناسى متعمدًا كيف وقف بجواره فى مواجهة نجوم كُثر، وكيف تحدى أمين الهنيدى الذى طالب مرّة باستبعاد "عادل" من مسرحية، ولكنه أخذ صف عادل إمام ورفض، حتى لو سيتم إغلاق العرض ويتكبد خسائر مادية. عادل بدأ بمسرحية "ثورة قرية" .. كان يقول فيها جملة واحدة "العسلية بمليم الوقية"، بعد أن رفض المنتج رياض العريان زيادة أجره فى التليفزيون قمت بإنتاج "أحلام الفتى الطائر" عام 1973.. فى المقابل لم ينكر "خفاجى" إن عادل إمام كان أكثر الفنانين التزامًا فى عمله، وارتباطًا بالمتحدين، لم يعمل مع فرقة غيرها، حتى بعد أن قام شقيقه عصام إمام بتأسيس فرقة مسرحية، تمسَّك بالعمل مع "المتحدين". ويصف "خفاجى" سعيد صالح بأنه كان مهملًا فى حق نفسه، ولكنه كان طيبًا وشهمًا وخدومًا يحب أن يساعد الآخرين، يكفى أنه الذى ساند يونس شلبى ومنحه فرصة التألق اليومى فى "مدرسة المشاغبين"؛ لأنه كان يفرش له الإفيه، وحسب كلامه السينما بالنسبة لـ سعيد صالح كانت أكل عيش، هو عاشق للمسرح، موهبته المسرحية تفجرت مبكرًا وهو صغير، وهذا تجلى فى مسرحية "حصة قبل النوم" التى كانت من إخراج فؤاد المهندس، ويشارك سعيد البطولة مدبولى، ولكنه سرق الأضواء من مدبولى الذى سعى إلى سعد لبيب المسئول التليفزيونى الكبير، يرجوه ألّا يتم عرض المسرحية، وبالفعل راعى خاطر مدبولى وتم مسح المسرحية. أضواء المسرح صديقى وجدى الشناوى، الذى كان قريبًا من "خفاجى" بحُكم عمله مديرًا لفرقة "الفنانين المتحدين"، والذى كان قد رتب هذا اللقاء معه فى بيته.. انتهز انشغاله عنا بمتابعة قناة "ماسبيرو زمان" التى كانت نافذته الوحيدة فى سنواته الأخيرة وقال لى: "يختفى الأستاذ سمير خفاجى فور انتهاء آخر ليلة عرض مسرحى لأى من عروضه المسرحية أينما كانت، وعندما سألته ذات مرّة فى بداية عملى معه، وبعد انتهاء أحد هذه العروض بالإسكندرية، "حشوفك بكره يا أستاذ لننهى بعض الأمور المُعلقة"، رد قائلًا "أقابلك فى القاهرة، أنا مسافر بُكره".. "مستعجل ليه يا أستاذ؟"، قال لى "بكره تعرف"!! وبالفعل تكشف لى فى اليوم التالى سبب هروب الأستاذ. فلقد كان أقسى شىء على نفسه أن تنطفئ أنوار مسرحه، لقد أصبح المكان مظلمًا وموحشًا، بعد أن كانت أنواره تتلألأ على كورنيش الإسكندرية، وساحة المسرح تمتلئ بسيارات الجمهور المتوافد على صالة العرض فى بهجة وسرور، وكواليس المسرح كلها حيوية بأبطال العرض وشباب وشبات فريق الاستعراضات وعمال الديكور والإضاءة والصوت... كل هذا أصبح يغلفة الصمت والظلام. ويضيف الشناوى: "هكذا كان عاشقًا للمسرح، يتمنى لو امتدت عروضه المسرحية طوال أيام العام، فيتنفس مسرحًا ويتزود بنصوص المسرح ويسعد بسعادة جمهور المسرح، ولذلك تراه يعود مسرعًا للتحضير لمواسم جديدة لعروضه المسرحية الناجحة المستمرة، أو الإعداد لعرض مسرحى جديد بنجوم كان هو أبرع من يختارهم على الإطلاق لإنتاجه المسرحى، وبروح الفنان المغامر استطاع أن يقدم فى تجارب مسرحية ناجحة نجمات السينما المصرية، كالفنانة الكبيرة نادية لطفى فى مسرحية "بمبة كشر" والفنانة الكبيرة شادية فى مسرحية "ريا وسكينة" والفنانة الكبيرة يسرا فى مسرحية "كعب عالى" وقبلهن فى ستينيات القرن الماضى الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا فى أول ظهور لها على خشبة المسرح. وعلى حسب قول "الشناوى": "ينطبق على المنتج سمير خفاجى وصف "المليونير الفقير!!".. لم ينشغل كثيرًا بأن يجنى أموالًا أو يراكم ثروة من نجاحاته المتتالية ، بل كان ما يشغله دائمًا ماذا أقدم جديدًا للمسرح المصرى، فكان أول من قدّم المسرح الاستعراضى فى مصر، نقلًا عن مشاهداته وزياراته المتكررة للفرق والمسارح العريقة فى أوروبا، وفى سبيل ذلك فهو مستعد لصرف كل ما يملك على إنتاجه المسرحى؛ ليظهر مقاربًا للمسرح الأوروبى فى لندن وباريس، فتراه يسافر إلى الخارج لشراء الملابس ومستلزمات الديكور التى لا تتوافر فى مصر، وعلى من يرشحهم للتعاون معه من فنانى الديكور والملابس والإضاءة والاستعراض أن يُحلقوا بخيالهم ويحلموا وهو ينفذ بعد أن يمدهم بالكتالوجات التى كان يستقدمها من كبريات الفرق المسرحية العالمية فى أوروبا. يعود "خفاجى" بعد فترة صمت.. أو استراحة للحديث عن مذكراته ومشواره المسرحى قائلًا: "أكبر مغامرة فى حياتى.. يوم أن قررت تكوين فرقة الفنانين المتحدين، رُغم أنى كنت "مفلس" تقريبًا، أخذت قرارى وأنا لا أعرف من سيوافق أن يكون معى ومن سيرفض، ومن يقبل العمل مع رجُل "مفلس" ماديًا، ولكن كنت واثقًا أن تجاربى السابقة منذ بدأت فى تكوين فرقة (ساعة لقلبك) وتجربة العمل فى مسارح التليفزيون.. منحتنى خبرات كبيرة.. حتى إن من نعمة ربنا أن (المتحدين) لم تكن شعبة مسرحية واحدة كانت ثلاثًا.. بمعنى أن هناك مواسم كنا نقدم ثلاث مسرحيات فى وقت واحد باسم فرقة المتحدين، كثيرًا ما كانت لنا عروض فى القاهرة وعروض فى الإسكندرية.. وهذا قمة النجاح للفرقة. التى أعتبرها حياتى، 50 سنة كاملة من حياتى، لهذا لم أكتب يومًا على أفيش مسرحية من إنتاج سمير خفاجى، يكفى أن أكتب إنتاج (فرقة المتحدين)"!
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة