وليد طوغان
سيناء: 994 مشروعا تنمويا.. و795 مليار جنيه تكلفة
أنفاق القناة.. استراتيجيات التنمية.. والدفاع
فى علوم السياسة كما فى العلوم العسكرية.. الاستراتيجيات غير التكتيك. الاستراتيجيات أهداف عامة جوهرية نهائية، بينما التكتيك مجرد تصرفات ثانوية فى الطريق إلى الأهداف. كلما قل وعى الدول، زاد السعى للتكتيكات. كلما قلت القدرات والرؤى.. زاد السعى للأهداف الثانوية.. فالأهداف الثانوية تخلب ألباب الجماهير.. وتستنهض شعاراتهم.. وهتافاتهم حتى ولو على حساب الأهداف الأخطر والأكبر.
تسعى الدول فى مراحل الضعف لإنفاق أكبر وتسخير أكثر الموارد للتكتيكات. السبب أن الإنجازات فى التكتيك أسرع من النجاحات فى الاستراتيجيات.. مدى تنفيذ التكتيكات زمنًا أقل كثيرًا من زمن الاستراتيجيات. تظهر نتائج التكتيك سريعة.. وتبدو بوادرها قريبة. ربما لذلك يجذب النجاح فى التكتيك حكامًا كثيرين.. ليس لديهم أكثر.. ولا فى نيتهم أكبر. الدولة المصرية دولة استراتيجيات. فى كل إجراءاتها للوصول للاستراتيجيات حققت الإدارة المصرية المعادلة الأصعب. وكانت النتائج: إنجازات فى الاستراتيجيات.. بمقاييس زمنية تنفيذ التكتيكات. أنفاق قناة السويس فى إطار الخطة الاستراتيجية لتنمية سيناء.. مثال. لأول مرة تتجه الدولة المصرية، فى الواقع وعلى الأرض لتنمية البوابة الشرقية استراتيجيًا. المرة الأولى وبعد عقودٍ طويلة من الكلام عن مشروعات.. مع تسويف، وبعد أحاديث طويلة عن خطط مستقبلية واعدة فى سيناء.. دون أن يأتى المستقبل. نحن الآن فى المستقبل. ( 1 ) بدأت الدولة المصرية منذ 2014.. كان القرار: تنفيذ الأهداف الكبرى فى أقل مساحات زمنية. أنفاق سيناء أحد أهم ركائز استراتيجيات الدولة. هى ليست مجرد أنفاق عادية، بما لها من أبعاد تنموية، ومعايير اقتصادية فى الطريق للعبور من الوادى إلى سيناء التى تساوى تقريبًا ما يوازى 6% من مساحة مصر، وهي التى ظلت متروكة منذ اتفاقية السلام عام 79. لا جدال فى اعتبار أنفاق القناة عاملًا مهمًا فى إطار التمهيد لطفرات اقتصادية، واستثمارية لشبه الجزيرة.. لكن أبعادًا أخرى أكبر وأخطر تجعل من أنفاق سيناء واحدًا من أهم الاستراتيجيات الدفاعية عن الأراضى المصرية. لأول مرة فى التاريخ المصرى، تبدأ وتتم على الأرض استراتيجية دفاعية لحماية لبوابة مصر الشرقية. لا تنفذ دولة يونيو المشاريع هباء.. ولا تختار مواقع العمليات التنموية بعشوائية أو بلا مبررات. منذ بداية التاريخ المصرى، وسيناء أحد مواطن أكبر الأخطار، ومكان أكبر التهديدات الكبرى التى قد تواجه الدولة المصرية. فى حروب (56، 67، 73) كانت سيناء نافذة الهجوم ومسرح العمليات. فى الدولة القديمة، دخل الهكسوس مصر من سيناء.. ودخلت الجيوش الفارسية من نفس المنطقة.. ونفس البوابات. خلال الحملة الفرنسية، لو كان كُتب لنابوليون الاستمرار، كانت المنطقة نفسها هى النموذج بالنسبة لذلك القائد العسكرى الامبراطور للعبور إلى الشام، ومن ثم حماية جيوشه المحتلة مصر.. وتأمين حدودها من ناحية الشرق. فى مصر الفرعونية أسس الرعامسة فى مصر دولة قوية، بعد تأمين الحدود الشرقية.. وفى عصور الاحتلال الرومانى، اختار القادة العرب سيناء لتكون المعركة الفاصلة مع الجيوش الرومانية. بعد معركة العريش، انفتح أمام عمرو بن العاص الطريق إلى حصن بابليون.. وسط القاهرة. حسب النظريات العسكرية، كان نجاح مرور القوات الإسلامية من البوابة الشرقية، بسلاسة، هو الذى فتح الطريق لعاصمة مصر.. بلا مزيد من معارك. ( 2 ) شبه جزيرة سيناء هى إذن واحدة من أخصب أراضى التنمية.. لاعتبارات الجغرافيا، وهى أيضا واحدة من أكثر المناطق حساسية.. باعتبارها بُعدًا أكثر من استراتيجى.. لتأمين الجبهة الداخلية للدولة المصرية.. لاعتبارات التاريخ. فى العام 73، دخل الإسرائيليون مفاوضات السلام "على نن عينهم".. بعد مرحلة ضعف وانكسار، ونظرات شاخصة فى ذهول، إثر عبور القوات المسلحة المصرية إلى الضفة الشرقية للقناة. فى كتاب "دفاتر ممنوعة".. لخصت اعترافات القادة الإسرائيليين عقيدتهم بأن استعادة مصر سيناء.. يعنى سقوط أكبر أحلامهم التوسعية فى المنطقة. ايفيى رافين (أحد قادة الألولية المدرعة عام 73).. قال: "عرفنا أن استعادة مصر سيطرتها على سيناء، يعنى فشل إسرائيل فى هدف إعادة التموضع فى تلك المساحة التى نعتبرها كنزا يتيح لنا الإشراف والتحكم وإدارة الطريق إلى فلسطين فى الشرق، وخليج السويس فى الغرب، ثم السيطرة على مداخل البحر الأحمر من الشمال.. وأخيرا مد سيطرتنا إلى مناطق مهمة فى مياه شمال المتوسط". يتفق الفكر العسكرى الإسرائيلى مع أفكار القوات المحتلة لمصر أو التى سعت لاحتلالها على مدار التاريخ، حيث كانت سيناء "رمانة الميزان" فى معادلة الصراع مع الدولة المصرية.. أو تهديدها.. أو حتى فى محاولات إفقادها التوازن على أقل تقدير. ( 3 ) بعد معاهدة السلام 1979 بقيت مسألة سيناء متلاطمة الآراء. طوال أكثر من 46 عامًا، كانت الدولة تتكلم عن مشاريع التنمية فى الضفة الشرقية لقناة السويس.. وعن سياسات إما لم تتم على الإطلاق، أو لم يتم إنجازها على النحو المطلوب. لم يتخط أكبر إنجازات التنمية حتى 2011، أكثر من إدخال مياه الشرب إلى بعض المناطق، أو تعديلات طفيفة فى بعض أجزاء البنية التحتية فى مناطق أخرى. ليس هذا ذمًا أو إنقاصًا من دولة ما قبل 2011.. ولا هو حساب لخطوات تنمية لم تقم بالشكل المرجو. لا تعنينا الأسباب، ولا تعنينا الملابسات، لكن غياب تنمية فعلية لسيناء جعل من تلك المنطقة مساحات واسعة شاسعة، سهلة الاختراق فى الطريق لقلب البلاد. فى بداية الألفية، اقتحمت جحافل الفلسطينيين بوابات الحدود، ووصلت فى ساعات إلى العريش.. والقنطرة.. والإسماعيلية، بلا امتداد عمرانى يصد.. ولا كثافة سكانية تحمى. بلا تنمية.. لا كثافات سكانية.. وبلا سياسات فاعلة.. لا امتداد عمرانيًا يصلح لإقامة مدن.. ولا ظروف مناسبة لتدبير معايش مواطنين. حتى العام 2014، ظل خبراء عسكريون يرون فى شبة جزيرة سيناء حقلًا مناسبًا مكشوفًا لمعارك المدرعات.. ومساحة واسعة سهلة لنشر ألوية المشاة الميكانيكى.. فى ساعات. صحيح تحكم السياسة الحروب.. وصحيح أن الحروب فى سيناء، تظل معلقة على معاهدات السياسة.. لكن تظل أولويات نظريات الدفاع بعيدة عن السياسة. لا يعتد القادة العسكريون بكل نظريات الساسة.. ولا يتنظرون بعين الجد إلى مفاوضاتهم ومداولاتهم.. وحساباتهم ولا طريقتهم فى اللعب. لا تخرج أولويات العسكريين عن: الاستعداد.. والجاهزية. هذا صحيح، فالمعاهدات الدولية مع دولة الجوار، لم تمنع عن سيناء محاولات جماعات الإرهاب من مناورات وجولات حروب العصابات، أملًا فى سيطرة.. أو رغبة فى تحويل سيناء إلى شوكة سامة فى ظهر الدولة. لم يحاول الإرهاب النفاذ إلى سيناء هباء. لم تكن ملايين الدولارات التى أنفقت، على إدخال أكثر أنواع الأسلحة تطورًا إلى سيناء، أو استعمال أكثر مرتزقة حروب العصابات فى الحرب ضد الدولة المصرية هناك.. إلا محاولة حثيثة لكسر أبواب البوابة الشرقية.. حصن الأمان للدولة المصرية من تلك الناحية. ضمن استراتيجية تنمية سيناء، جاءت أنفاق قناة السويس، وما يستتبعها من مناطق صناعية، وما يترتب عليه من ربط وادى النيل فى الغرب، بسيناء فى الشرق، أشبه بمحور انتقال طائر يفرض قوة الدولة وسطوتها وهيمنتها.. من شرقها لغربها. دفعت الدولة المصرية بثقلها إلى الضفة الأخرى للقناة، بما يعنى تحويل معالم الجغرافيا فى سيناء.. وتغيير معادلات التاريخ على الأرض. بدأت دولة يونيو الاستراتيجيات كلها فى وقت واحد، ومرة أخرى.. لا بد من إعادة التأكيد على ما أحدثته من كسر معادلات الزمن.. ومقاومة معوقات البيئة. ( 4 ) لم يكن من الخيارات المناسبة البدء فى نقل التنمية للضفة الشرقية للقناة إلا بتأمين استثمارى تنموى لمنطقة غرب قناة السويس. قطاع غرب قناة السويس كان بداية الطريق لتنمية سيناء. على الخريطة، وحتى عصور مضت، كان غرب قناة السويس صحراء شاسعة، لا هى مستغلة، ولا هى قادرة على أن تكون طرفًا فى معادلة منتجة.. رغم ما بها من مقومات، وما وراءها من أسباب. أى خطة حقيقية لتنمية سيناء، كان لابد وأن تبدأ بتنمية قطاع غرب قناة السويس أولا. بدأت خطة تنمية قطاع غرب قناة السويس، بالعاصمة الإدارية الجديدة، وميناء السخنة، وطريق الكريمات، ومصانع وشبكات كهرباء، ومحطات مياه.. وشبكات طرق على أعلى طراز استهدفت ربط شمال وادى النيل وجنوبه.. بقطاع غرب القناة قفزًا إلى شرق القناة.. يعنى إلى سيناء. ليست العاصمة الإدارية، بموقعها المختار وحدها التى تضمنتها المعادلة.. فمن أطراف العاصمة الإدارية فى اتجاه الشرق مرورًا بقطاع السويس، امتدت الرقعة السكانية.. والمشروعات الاستثمارية، ومشاريع البنية التحتية، ومحفزات الانتقال الاستثمارى والسكنى، فى معادلة تعميق الكثافات السكانية، وتمهيدا لنقل أكثر من 6 ملايين مواطن من الوادى الضيق إلى قطاع أرحب وأوسع.. حيث الرزق.. وامتداد العمران. هذه دولة لا تختار مشروعاتها بعشوائية، ولا تقر التزاماتها بـ"طق الحنك". هذه دولة، ترسم السياسات.. وفق الظروف الدولية، والإقليمية.. ووفق موجبات الزمان والمكان. تتحدى دولة 30 يونيو الجغرافيا والتاريخ. من تنمية سيناء جنوبًا، إلى سيطرة على مياه شرق المتوسط فى الشمال.. تكتمل الدوائر. فى تلك المنطقة من مياه شرق المتوسط، انتصرت مصر فى معركة الغاز. يعنى سيطرة مصرية على شرق المتوسط.. وجنوبه. لذلك كلما زادت التنمية، أسقط فى يد قوى الشر. على كل.. هذه دولة.. تعمل بالقانون.. وتمد يدها بالسلام. لكن وقت اللزوم، فإن لدى هذه الدولة أيضًا.. قدرات.. وعينًا حمراء.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة