الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
كوميديا الوعظ والإرشاد؟!

كوميديا الوعظ والإرشاد؟!

"ضحكٌ كالبكاء".. هو أصدقُ تعبير يعكس تجربة مسرحية متميزة ترجمتها أعمال أحد رواد مدرسة الكوميديا السوداء فى المسرح المصرى المعاصر. وهو الفنان محمد صبحى، الذى تخطى بمسرحه حدود كوميديا "الفارس" ليقدم لونًا راقيًا من فن الكوميديا يرتكز على النقد الساخر الذى لا يقف عند حد إثارة الضحك عبر المفارقات الكوميدية وإنما يتجاوزها إلى اتخاذ السخرية المريرة. "صبحى" الذى احتفل فى سبتمبر الماضى باليوبيل الذهبى لتأسيس فرقته "ستوديو الممثل" التى قدمت لنا وعلى مدار خمسة عقود ومنذ عام 1969 أجيالًا من الممثلين والمخرجين ومهندسى الإضاءة ومصممى الحركة وغيرهم من كوادر العمل المسرحى، لم يكتفِ بالاحتفال بتجربته المسرحية التى شارك  خلالها فى عشرات الأعمال المسرحية؛ وإنما مَضى فى تقديم ثلاثة أعمال جديدة هى "ألف عيلة وعيلة" و"نسيت أنى رجل" و"هنوريكو النجوم في عز الظهر"، التى يتوج بها مشوار فرقته ليُكرس فيها لمسرح هادف يتخذ من الكوميديا منبرًا للنقد الساخر الذى يستنفر الهمم ويحث على التغيير. منذ أن قدّم أولى بطولاته المسرحية فى عام 1975 فى "انتهى الدرس ياغبى"، مرورًا بأعمال مثل "الجوكر والهمجى وتخاريف ووجهة نظر وماما أمريكا ولعبة الست وكارمن" وحتى مسرحية "خيبتنا" التى قدمها فى 2018 لم تغب ملامح الكوميديا السوداء عن مسرحه الذى لا يتوانى عن التطرُّق بالنقد إلى سلبيات المجتمع، والتى يطرحها أمام جمهوره برؤية ساخرة لكنها سُخرية تخلقت فى رحم المأساة، فكانت المفارقة التى تبعث على الضحك، لكنها تحمل فى طياتها إحساسًا تراجيديّا بالمرارة وتوقًا إلى التغيير. ويحمل اختيار "صبحى" لهذا اللون من الأداء الكوميدى فى طياته رؤية واعية تتناغم مع المزاج العام للإنسان فى بلادنا، الذى يواجه قسوة واقعه اليومى بشىء من المرارة التى يداريها عادة بابتسامة مترفعة وروح متوثبة للسخرية اللاذعة وذهن حاضر النكتة. لكنه أداء يتجاوز الفكرة الأرسطية للمسرح الذى يركز على التطهر من الخوف والإشفاق والمشاعر السلبية إلى مسرح التغيير الذى ينتقد الواقع، بدءًا بتسليط الضوء على عيوبه وإبراز تناقضاته قبل أن يسعى فى تغييره بعد أن يفضح نواقصه ويكشف زيفه. بطل مسرحيات محمد صبحى هو دائما فارس يحمل هموم واقعه المرير على عاتقه، لكنه وإزاء مفارقات هذا الواقع ومنغصاته يسعى دومًا لمجابهته ويضع نُصب عينيه هدف تصحيحه. فهو سطوحى المعاق ذهنيّا الذى يتحول إلى شخص ذكى بفعل تجربة معملية غير مكتملة النجاح ليفطن إلى حقيقة كونه مجرد فأر تجارب. وهو زكى وأيوب وفتح الباب وعطيات فى الجوكر، وجوه مختلفة لشخص واحد يفضح زيف ونفاق المحيطين بحبيبته التى صارت مطمع الرجال بعد أن ورثت ثروة عن زوجها الراحل رجل الأعمال أبو الوفا الذى لم يحمل من صفات الوفاء سوى الاسم فقط. وهو فى مسرحية "الهمجى"، آدم عبد ربه معلم الأجيال والمربى الفاضل الذى يؤمن بأن الإنسان مفطور على حُب الخير لكنه يصارع نوازع الشر التى تستدرجه وأسرته الصغيرة إلى طريق الخطيئة. وهو الإنسان الباحث عن السعادة فى "تخاريف"، من خلال حلم امتلاك القوة والسُّلطة والجَمال، التى لا تحقق له مراده ولا تلبى طموحاته. وهو عرفة الشواف حبيس دار لرعاية فاقدى البصر فى "وجهة نظر"، الذى يكشف رُغم كونه كفيفًا كذب ونفاق المجتمع ومحاولة استغلاله للضعفاء من الناس. وهو ونيس المعلم والمربى الفاضل الذى كرَّس حياته لتلقين أبنائه قواعد الأخلاق والمبادئ والمُثل العليا. وهو رئيس فريق المسرح فى "كارمن"، الذى يجسد نموذجًا حيّا لحُب السُّلطة والاستبداد، والذى يحاول من خلاله "صبحى" أن يتناول بالنقد شخصية الديكتاتور. تلقين مباشر هنا تجدر الإشارة إلى هذا المدخل التربوى، الذى اتسمت به الكثير من  أعمال محمد صبحى المسرحية، والذى يلعب فيه دومًا دور المبدع الذى يوجه النصح والإرشاد للمتلقى، وهو مأخذ رأى فيه بعض النقاد نوعًا من التلقين المسرحى المباشر الذى يخرج بالمسرح من إطار النقد الدرامى إلى منابر الوعظ  الأخلاقى. فنموذج الأستاذ ونيس الذى حقق نجاحًا تليفزيونيّا باهرًا من خلال تناوله شخصية معلم الأجيال والمربى الفاضل الذى يلقن أبناءه مبادئ الأخلاق والمُثل، والذى ظهر فى عمل مسرحى يحمل الاسم نفسه منتصف التسعينيات، لم يغب عن الكثير من أعمال صبحى المسرحية. لكن المتأمل لتجربة صبحى المسرحية سرعان ما يلحظ ما يوليه من اهتمام بالبحث عن النموذج والقدوة، التى هى من وجهة نظره إحدى الركائز الأساسية لبناء أى مجتمع، وإزاء انحسار مثل هذه الشخصية عن الأضواء فى عالمنا المعاصر يهتم "صبحى" دومًا بإعادتها إلى دائرة الضوء من خلال أعماله المسرحية، التى لا تضفى على تلك الشخصية هالة من القدسية وإنما تلح فى إبرازه كواحد من جموع الناس لا يميزه إلا إيمانه بمبادئه وثباته على المُثل التى توضع دائمًا على المَحك. ولم يغب عن "صبحى" المؤمن بدور المسرح فى الارتقاء بالمجتمع، أن يخوض تجربة إحياء التراث الإبداعى للفن المصرى، سواء فى المسرح أو فى السينما ليكون متاحًا أمام جمهور عريض من المتلقين عبر مشروع "المسرح للجميع". فكانت مسرحيات "لعبة الست" المأخوذة عن فيلم نجيب الريحانى السينمائى الذى حمل العنوان نفسه، و"سكة السلامة" وهى رؤية عصرية للمسرحية التى حملت الاسم نفسه منتصف الستينيات، بخلاف "كارمن" التى تشكل اقتباسًا فنيّا عن "أوبرا كارمن" لجورج بيزيه، والتى استطاع صبحى أن يحملها مضامين نقدية معاصرة تتطرق لإشكالية التعاطى مع شخصية الديكتاتور. ورُغم غياب استمر نحو عقدَين عن تلك التجربة، فقد أعادها صبحى من خلال مهرجان "المسرح للجميع" الذى قدّم خلاله أعمالًا جديدة، لعل أبرزها مسرحية "غزل البنات" وفانتازيا "خيبتنا" ومسرحية "هنوريكو النجوم فى عز الظهر". وقد رصد بعض النقاد اهتمام صبحى بإعادة تجسيد شخصيات الريحانى ولو برؤية عصرية خلال مسرحيتَى "لعبة الست" و"غزل البنات"، التى رأى فيها فريقٌ من النقاد نوعًا من الاقتباس الذى لم يكن صبحى بحاجة إليه، وأنه إعادة استهلاك لشخصية كلاسيكية سبق أن تعامل معها المتلقى. نوستالوجيا فنية  وبالتوازى، فقد لمس آخرون قدرة "صبحى" على لمس الشخصية بتقمص ملامحها تارة والخروج من عباءتها تارة أخرى بما يخدم رسالة النص المسرحى. كما رأى فريقٌ من النقاد أن فى إحياء شخصية حسن وابور الجاز بطل "لعبة الست" وأستاذ حمَام فى "غزل البنات" نوعًا من النوستالوجيا الفنية التى لا تقف عند حد استلهام هاتين الشخصيتين؛ وإنما تركز على تمرير رسالة صبحى الناقدة للمجتمع عبر شخصية مُركبة حملت من الكوميديا بقدر ما أظهرت من التراجيديا فى مزيج يُكرس لمسرح الكوميديا السوداء. وقد استقبل الجمهور مسرحية "لعبة الست" بحفاوة عند عرضها مطلع الألفية؛ خصوصًا فى ضوء ما أبداه "صبحى" من براعة فى تقمص شخصية حسن وابور الجاز بكل ما تحمله من ملامح القهر الممزوج بالطيبة ونقاء السريرة والذكاء فى مزيج إبداعى نجح من خلاله صبحى كما نجح سلفه الريحانى فى تجسيد روح الكوميديا السوداء التى تتطرق إلى مفاسد المجتمع بنبرة سخرية لاذعة تبعث على الضحك من المفارقة، لكنه ضحك مبطن بالألم والرغبة فى مواجهة هذا الواقع المرير بهدف تصحيح مساره. ويعود "صبحى" بعد نحو ثمانية عشر عامًا ليقدم رائعة أخرى من روائع الريحانى، وهى مسرحية "غزل البنات" المأخوذة عن الفيلم الشهير الذى عرض عام 1949 ويجسد خلالها شخصية الأستاذ حمام مدرس اللغة العربية الذى يكابد لوعة الحب المستحيل والذى يفتح عينيه على عيوب وتناقضات المجتمع. ممكن اعتبار تجربة محمد صبحى المسرحية تجربة تفاعلية يعتمد من خلالها على مخاطبة عقل ووجدان الجمهور بعيدًا عن الابتذال، لكنه تفاعل يستفز مشاعر المتلقى ويشغل تفكيره. فالمتلقى فى مسرح صبحى الكوميدى ليس متفرجًا سلبيّا يكتفى بالاستمتاع بالكوميديا التى تقدمها المسرحية لينتهى أثرها بإسدال الستار، فالقضية المثارة على خشبة المسرح جزءٌ من واقع ملموس وهَمّ عام سيشغل بال المتلقى داخل قاعة المسرح وخارجها، فينفعل بالدراما المسرحية ويتفاعل مع مفرداتها ليخرج إلى الشارع ليس كشاهد على تحديات الواقع وإنما كمشارك إيجابى فى الحراك المجتمعى، يحدوه شغف قد يحمل مسحة من الحزن لكنه لا يخلو من الأمل والتطلع إلى غد أفضل.



لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق