زمن الضحك بـ«المطواة»!

محمود قاسم
جاءت ظاهرة "اللمبى" فى بداية هذا القرن وسط حالة من الازدهار الملحوظ لسينما كوميديا الإفيهات فى مصر، مع ظهور من سميناهم بالمضحكين الجُدد. وهم الذين لمعوا بشدة فى الفترة التى بدأ فيها عادل إمام يخبو كوميديًا, وهو يكرر نفسه دون أن يضيف جديدًا, مثلما فعل فى "رسالة إلى الوالى" و"الواد محروس بتاع الوزير"، وكلاهما من إخراج نادر جلال, رُغم أنه أخرج الكثير من الأفلام الكوميدية لعادل امام منها ثلاثية"بخيت وعديلة".
جاء هذا الجيل ليعمل بطريقة أشبه بمسرح عبدالمنعم مدبولى, إنه الضحك للضحك وأن المتفرج عليه أن يُفجّر القاعة من القهقهة بسبب الإفيهات المنطلقة من الأبطال, لذا فإن هذا الجيل كله اتجه أيضًا بقوة إلى العمل بالمسرح السياحى الصيفى المعتمد على الكوميديا إلى جوار السينما, إلا أن هذه الأفلام كان بها خيط رفيع يحتاجه الناس كشعور الانتماء أو الوطنية, مثل مشهد حرق علم إسرائيل فى "صعيدى فى الجامعة الأمريكية".

طموح البطل
اتسم أبطال أفلام «المضحكون الجدد»؛ خصوصًا هنيدى بالطموح الشديد مثل طالب الجامعة الأمريكية الطموح جدًا والمتفوق رُغم جميع الإغراءات من حوله, أمّا همام المعدم الذى سافر إلى هولندا مُعدمًا تمامًا, فقد تمكن من امتلاك أكبر المطاعم فى أمستردام. وكان البطل فى هذه الأفلام مرتبطا بشلة تسانده من الأصدقاء, وهكذا رأينا الشخصية التى يجسدها هنيدى معاكسة تمامًا لشخصية بخيت الفاشل والمتصيد للفرص, الذى لا يكاد يحقق شيئًا رُغم الفهلوة التى يعيش بها. هكذا وُلِدَ جيلٌ جديد من المضحكين إلى جوار هنيدى, ونجحت أفلامهم، ومنهم علاء ولى الدين الذى رحل فى قمة نجاحه, وأحمد حلمى, وأشرف عبدالباقى. وهنا ظهر محمد سعد الذى رأيناه فى شخصية شاب غريب المظهر, يحمل المطواة فى يده (قرن الغزال) التى لا تفارق الشباب البلطجية قُطاع الطرُق, وأيضًا العاملين بالإتجار فى الحشيش, فهى سلاحه ولعبته, يتكلم وينطق الحروف بطريقة غريبة, لكنه ليس أبدًا بالغبى, بل هو شديد الذكاء. وأكاد أجزم أن واحدًا منّا لم يقابل فى حياته مثل هذا الشخص بالتركيبة التى عهدناه بها, ولكن الملايين التى أعجبتها أفلامه زرعت من حولنا عشرات من اللمبى؛ خصوصًا مع نجاح أفلام تالية قام ببطولتها الممثل الذى كان أغلب أبطالها صورة كربونية من هذا الشاب. اللمبى ظهر أولًا فى محيط مجموعة من الشباب المتعلمين الطموحين الذين ينتمون للطبقة المتوسطة وما يعلوها، لكنه فى فيلم "الناظر" إخراج شريف عرفة الأب الروحى لهذا الجيل مع كل من علاء ولى الدين وأحمد حلمى, كان الدور مساعدًا, وفى تلك الفترة التقى محمد سعد فى شخصية مقاربة فى فيلم "55 إسعاف", كانت الشخصية قريبة جدًا من اللمبى. ليس بالطبع فى الاستعانة بالمطاوى، لكن فى ادعاء الاستعباط, وسرعان ما قرر الكاتب أحمد عبدالله أن يؤلف له عملا متكاملا فى فيلم جديد يتناسب مع أجواء الدراسة والامتحانات فى تلك السنوات، فالنظام الدراسى ينهك التلاميذ وأولياء أمورهم, ولذا فإن الطلاب يرغبون فى الضحك على طريقة هذه الكوميديا تفريغًا حقيقيًا لما عانوه أيام الدراسة.
خلافات النقاد
صحيح وجد بعضهم ضالتهم فى الضحك والفرفشة مع اللمبى الذى نال إعجاب ودهشة الملايين وأثار الخلافات الشديدة بين النقاد, لكنها كانت مأساة؛ حيث ادّعى البعض أن اللمبى نموذج للمهمشين الذين تذكرتهم السينما فجأة, وأنه جاء الوقت كى يتم ظهورهم على الشاشة, وأشادوا بالشخصية والفيلم, الشخصية هى لشاب عاطل ليس أبله, لكنه لا يعمل, ويتم تصوير الأفلام فى المنتجعات السياحية فى جنوب سيناء والبحر الأحمر. ونحن هنا أمام ممثل يمتلك كل مفردات الكوميديا المتفجرة والقدرة الجسدية على أداء كل الحركات. ويجمع بين كل من جيرى لويس, وجيم كارى ومحمد صبحى وفؤاد المهندس فى بداياتهم. إيمانًا بمقولته الشهيرة "اوعَى يغرك جسمك" وطريقة غريبة للنطق بالكلمات, واعتماد ملحوظ على السلاح الأبيض, يسكن فى حى شعبى مع أمّه, دون أن يكون فى الأسرة شخص ثالث. يقع فى هوَى جارته التى حاول الزواح منها دون أن يمتلك المال, وليس فى حياة البنت شخص آخر إلا اللمبى الذى يختلف معها وأبيها أكثر ما يتفقان. وهكذا وُلد فى مجتمعنا بطل مضحك جديد فيما شكل ضررًا اجتماعيًا بانتشاره لكن للأسف فإن هذا اللمبى صار منشودًا، فهو يُضحك الناس, بصفة خاصة الجيل الجديد, وهو عاطل مثل آلاف الشباب الذين يملأون المقاهى, وصار نموذجًا يُحتذَى بما يفعله, ويردده, وللأسف أيضًا فإن أغلب الجمهور الذى كان يتابعه هو من أبناء الطبقة الموسرة التى فى إمكان أبنائها شراء تذاكر السينما بأسعار صالات المولات. وفى هذه المرّة لم يتمكن اللمبى أبدًا من الصعود الاجتماعى فى زمن الانقتاح, لكنه كان يعود إلى جذوره مثلما رأينا شخصيات محمد سعد فيما بعد, ومنها بوحة, وبوشكاش, وأطاطا, وعوكل, وكركر. حدّثنى شاب كان يعمل مساعدًا فى هذه الأفلام عن الحالة النفسية للممثل داخل الاستوديوهات؛ حيث كانت حساسيته للدور تنعكس عليه دومًا، فهو فى حالة خشية ألا يؤدى العمل الأنجح أسوة بالعمل السابق, والمقصود بالنجاح هنا تلك الإيرادات الضخمة التى تتفوق على كل الأفلام فى موسم الصيف فقط.. بصرف النظر عن مضمون ما يقدم. وكان أفضل شىء هو العمل مع الشخصية نفسها، سواء بالاسم نفسه أو باسم جديد, فيجب أن يكون هناك اللمبى 2, إلا أن الرقابة اعترضت فجاء اسم الفيلم التالى هو " اللى بالى بالك", يعنى اللمبى, وفى الفيلم الذى أخرجه أيضًا وائل إحسان رأينا اللمبى منشطرًا إلى رجُلين يتوحدان فى شخص واحد أشبه بالزيجوت فى علم الأحياء، هما مدير السجن رياض المنفلوطى, واللمبى. والحقيقة أن الفيلم هذا قد استفاد كاتبه من النقد الذى واجهه الفيلم الأول, فالعملية الجراحية التى جعلت رجُلين متناقضين يصيران شخصًا واحدًا جعلت اللمبى مقبولًا أكثر, إذا كان اللمبى صاحب السلاح الأبيض يعيش فى العشوائيات؛ فإن المنفلوطى متزوج من سيدة راقية تحبة وتتفهم التغيرات التى طرأت عليه, فصار عصبيًا يتكلم بطريقة جديدة تخص اللمبى، وفى الفيلم فإن اللمبى وجد وظيفة مرموقة فى جسد الضابط, وتمكن من إحباط محاولة هروب مجرمين خارح البلد، لكن الطريقة التى ينطق بها غريبة وهو يتحدث إلى اللجنة الدولية التى تزور السجن لحقوق الإنسان، ما كان السبب فى إضحاك الناس.. مرة أخرى ضحك «مضر».

مطاردة النجاح!
بدا اللمبى هنا أكثر إنسانية, واقترابًا من مشاعر الناس, فالضابط يطارد اللمبى, وتصطدم السيارت ويتم عمل جراحة مفادها أن الرجُلين صارا واحدًا, من الخارج له جسد رياض المنفلوطى ومن الداخل هو اللمبى, وبشكل عام هو شخصان معًا, لا يعرف سرّه سوى الطبيبة المعالجة, وأيضًا المتفرج, وعلى اللمبى بكل تناقضاته وبيئته أن يحمل الشخص الآخر، زوجته ووظيفته, وابنته, والمسئوليات الجديدة, وقد بدا التناقض فى الشخصيتين مضحكًا, هو تخلى عن ماضيه, مقابل السُّلطة التى يتمتع بها, وعاش الحب فى حياته الجديدة, فأحب المرأة التى يعيش فى بيتها على أنه زوجها, واندمج داخل دوره كمأمور السجن, وإذا كان المنفلوطى مرتشيًا فالمأمور الجديد يرفض الرشوة وينجح فى استعادة المجرم من المطار. جسد محمد سعد هنا شخصيتين متناقضتين تمامًا, ويثبت قدراته الخارقة فى الأداء الحركى البالغ التنوع, يغنى ويرقص, ويركب الدرّاجة البخارية, ولا يجيد التعبير عن مشاعره, لكنه فاقد لبعض العقلانية, أمّا اللمبى السابق فهو لايزال موجودًا, وفى النهاية فإنه يتعرض لحادث طريق سوف يُولد منه شخص ثالث مختلف تمامًا. فتح هذا الباب لمحمد سعد أن يثبت أنه قادر على التنوع مثلما ستراه فى "عوكل", فإذا كانت شخصية عوكل أقرب إلى التعقل بمعنى أنه يتكلم بشكل طبيعى؛ فإنه يجسد أيضًا شخصية العجوز أطاطا التى هى اللمبى الأنثى بكل صفاتها, ونزقها, واندفاعها, وهى العَمّة التى تعيش وحدها بينما عوكل ذهب عن طريق الخطأ إلى اليونان وهناك مارَسَ مغامراته كعامل ميكانيكى, وقع فى الحب, وتزوج, أمّا اللمبى الأنثى فقد ملأ الفيلم بالصخب والحيوية. وإذا كانت الرقابة, والنقاد يقفون أمام أو ضد الشخصية فلم يعد اللمبى فى الأفلام التالية بالاسم نفسه، إنما بشخصيات جديدة, جميعها اللمبى، ما يؤكد على كلام صديقى مساعد المخرج أن الممثل كان شديد القلق مع كل فيلم جديد.
المضحكون الجُدد
كانت السينما قد ازدهرت فى عصر المضحكين الجُدد، ومنهم أحمد حلمى الذى نافس بشكل ملحوظ, ورأينا محمد سعد بأسماء أخرى منها "بوحة" الجزار الذى تحوَّل السلاح الأبيض عنده من مطواة إلى سكين أقرب إلى السيف باعتبار وظيفته كجزار, وأيضًا كى يمكنه السيطرة على حيوانات المسلخ, ومن هذه الأسماء أيضًا "كتكوت" وأيضًا اللمبى فى العصر الإلكترونى "8 جيجا". باعتبار أنه فى فن الكوميديا فإن المرء لا يضحك على النكتة نفسها أكثر من مرّة؛ فإن محمد سعد وهو يرى إيرادات بعض أفلامه التالية تتناقص, فقد أثبت أنه لا يرغب فى الخروج من اللمبى وأقرانه, ولا أريد القول إنه لم يكن قادرًا, فمثلما قام شريف عرفة بصناعة ألقه فى "الناظر", فإنه أسند إليه شخصية مختلفة تمامًا فى فيلم" الكنز"؛ حيث رأيناه الممثل المتميز, لكن كما ساورته المخاوف فإنه لم يكن مضحكًا, وقد كان هذا رأيى بانتهاء عصر الكوميديا التى عرفها الناس مع المضحكين الجُدد, لقد صاروا جميعًا أكبر سنًا, وقدموا ما عندهم, وبحث الناس عن بطل جديد أيا كانت صفاته تتناسب سماته مع بداية العقد الحالى. إنه البلطجى حامل السلاح الأبيض الأشد شراسة, لا يستخدمه فى التهويش بل فى الطعن والقتل, ليس أداة للإضحاك بل أيضًا فى القتل والسرقة والنهب, كا تقلصت السينما الكوميدية كى يسيطر على الساحة ممثلون جُدد, بدوا كأنهم افتقدوا أسلوبهم فى الكوميديا, ولذا فإنهم ظهروا فى بعض الأفلام الصغيرة, أو الهامشية, وعادت سينما القفشات فى وقت انسحب من كانوا سادة الكوميديا مع مطلع القرن, ويمكنك ملاحظة ذلك فى الأعمال الأخيرة لأفلام محمد هنيدى وأحمد حلمى. وفى الوقت الذى خلت فيه دراما التليفزيون من الكوميديا, نجحت مجموعة "مسرح مصر" أو المسرح الجديد مع أشرف عبدالباقى لبعض الوقت, ولم تكن تجارب نجوم "مسرح مصر" السينمائية تستحق الالتفات إليها, ورحنا ننتظر دفعة جديدة تمامًا ومختلفة من مضحكى العقد الثالث من القرن الحالى.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة