لماذا يكره أردوغان الصحافة؟!

رشدي الدقن
واقعة الاعتداء الشهيرة على الإعلامى التركى المعارض «يافوز سليم ديميراج»، بالضرب فى الشارع من قبل مجهولين فى عام 2016 ونقله للمستشفى، ثم سجنه عامًا بتهمة إهانة الرئيس رجب أردوغان، تلقى الضوء على تدهور أوضاع الصحافة فى تركيا، بل وأوضاع غياب دولة القانون. فقد اعتدى مجهولون على ديميراج، أمام منزله عقابًا له على ظهوره فى برنامج تليفزيونى، ينتقد فيه قَمع الرئيس التركى، وكيفية تعامل السُّلطات التركية مع الإعلاميين.
الضرب والسحل لم يكونا هو المصير الوحيد للصحفيين فى أنقرة، فمحكمة استئناف تركية أكدت أحكامًا فى وقت سابق بالسجن وصل بعضها لأكثر من 8 سنوات، بحق 14 مسئولًا وصحفيّا سابقًا فى صحيفة "جمهوريت" المعارضة. كما أصدرت محكمة أخرى، فى وقت آخر حُكمًا بالسجن المؤبد على 6 صحفيين بارزين اتُهموا بأنهم على علاقة بمحاولة الانقلاب المزعوم الذى وقع فى 2016. انهيار الحريات والمتابع لأحوال الحريات والصحافة فى تركيا يرى بوضوح أن حرية الصحافة تسجل انهيارًا غير مسبوق هناك، حيث تسارعت وتيرة الانتهاكات بحق الصحفيين المعارضين منذ عام 2016. لماذا يكرهون الصحفيين فى تركيا؟ سؤال قد يبدو بسيطًا.. لكنه بالتأكيد مؤلم ويُعبر عن واقع مرير. مؤشر تعامل نظام اردوغان مع الصحافة بتركيا يشير بوضوح إلى كراهية أردوغان وحكومته للإعلام كما تقول اتهامات دولية، فقد استغل محاولة الانقلاب الفاشلة للزج بالصحفيين فى السجون وإغلاق معظم وسائل الإعلام المعارضة له داخل تركيا. ووضعت "تقارير دولية" تركيا فى المرتبة 157 فى حرية الصحافة، وقدرت أن نحو أكثر من 90 فى المئة من التغطية الصحفية فى تركيا منحازة للحكومة. وأغلق أردوغان 200 وسيلة إعلام، منها 5 وكالات أنباء، 62 جريدة، 19 مجلة، 14 راديو، 29 قناة تليفزيونية، 29 دارًا للنشر، هذا فضلًا عن كثير من القنوات والإذاعات الكردية واليسارية والعلوية المستقلة، هذا بخلاف حجب 127.000 موقع إلكترونى، 94.000 مدونة. مركز "نسمات" للدراسات الاجتماعية والحضارية بالتعاون مع موقع "زمان التركية" فى تقرير مهم حول الوضع المزرى للصحافة ومعاناة الصحفيين فى تركيا، كشف أن أنقرة غدت من أسوأ دول العالم من حيث التعامل مع الصحفيين. وصفتها تقارير دولية "بأنها أكبر سجن للصحفيين فى العالم للعام الثانى على التوالى، إذ يمثل الصحفيون المعتقَلون فى تركيا، نصف عدد الصحفيين المعتقلين على مستوى العالم. وأكد التقرير أن 319 صحفيًا معتقلًا يقبعون فى السجون منذ صبيحة محاولة الانقلاب المزعوم، كما صدرت مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيّا آخرين مشردين فى خارج البلاد حتى الأن. وتَعرَّضت تقارير دولية لما يواجهه الصحفيون فى مراكز الأمن أو السجون من إساءة وإهانة وتعذيب وقالت إن السلطات التركية تفرض قيودًا صارمة على اتصال السجناء مع محاميهم؛ وفى أحسن الأحوال، يُسمح للسجناء بلقاء محاميهم تحت المراقبة... ولا يُسمح لبعض السجناء باستلام الرسائل أو الكتب الآتية من الخارج... ويُسمح فقط لأقرب الأقارب مرّة فى الأسبوع بزيارة السجناء، من خلال نوافذ زجاجية أو عن طريق الهاتف، كما لا يسمح بتواصل السجناء مع سجناء آخرين ماعدا السجناء المحتجَزين فى الزنزانة ذاتها. بالإضافة إلى الشكاوَى من طول فترة الحبس الاحتياطى، والحبس الانفرادى، والتعذيب النفسى والجسدى، وعدم المراعاة الطبية لذوى الاحتياج من المرضى، وتكديس المحتجَزين فى عنابر لا تسعهم. تنكيل وتعذيب وأفادت التقارير الدولية أن المعتقلين من الصحفيين فى هذه السجون يتعرضون لأنواع متعددة من التنكيل والإساءة والتعذيب والانتهاك البدنى والنفسى كُشف عن بعض حالاته، وهناك حالات كثيرة لم يُكشف عنها بعد، فمن هذه الحالات التى تم الكشف عنها “عائشة نور باريلداك”، وهى صحفية شابة قبض عليها فى 11أغسطس 2016 بتهمة انتمائها لجماعة إرهابية، ونسب إليها تهمة العمل فى جريدة "زمان"، التى كانت أكثر توزيعًا فى تركيا قبل أن يتم إغلاقها من قِبَل الحكومة فى يوليو 2016. وتداولت وسائل الإعلام التركية حالة "عائشة نور باريلداك" لأنها أرسلت رسالة من السجن لجريدة "جمهورييت" تَشْتكى فيها من معاناتها داخل السجن، وتعرُّضها للضرب والتعذيب، والتحرش الجنسى، حيث قالت: لقد تم التحقيق معى لمدة ثمانية أيام، وكان التحقيق مستمرّا على مدار الساعة، المحققون كانوا سُكارَى، أخاف أن ينسانى الجميع داخل الحبس. منظمات دولية وأممية أكدت أن تركيا تحولت إلى "زنزانة" للصحفيين وأصبحت أكبر سجّانى العالم للصحفيين، حيث وصلت الأحكام الصادرة بحق بعضهم إلى السجن المؤبد، لا لشىء إلّا لأنهم يقومون بعملهم. وتسَلط التقارير الدولية الضوء على أوضاع الصحفيين فى تركيا والقمع الذى يتعرضون له برعاية أردوغان الذى يمارس القَمع تجاه الصحفيين وسجن منهم العشرات بهدف تكميم الأفواه التى تنتقد سياساته الديكتاتورية الفاشلة داخليّا وخارجيّا. ونقلت منظمة العفو الدولية فى تقرير نشرته على موقعها الإلكترونى، عن صحفيين أتراك حديثهم عن مناخ الخوف، وإسكات الأصوات، الذى يلف المشهد الإعلامى فى تركيا، وطالبت بالإفراج عن سجناء الرأى. وفى التقرير قالت "زهرة دوغان" فى رسالة من سجن ديار بكر: "أنا فى السجن ولكننى لستُ سجينة.. وكل يوم أتأكد أنه من غير الممكن حبس الفن والصحافة.. وسنواصل كفاحنا، وسنواصل القول بأن الصحافة ليست جريمة إلى أن يتحرر جميع الصحفيين". الفنانة التركية زهرة دوغان هى رئيس تحرير وكالة الأنباء النسائية "جينها" التى أغلقت فى أكتوبر 2016، وتقضى فترة حُكم بالسجن بسبب لوحة رسمتها ومقالات إخبارية قامت بنشرها. وتسيطر الحكومة التركية الآن على نحو 90 بالمائة من وسائل الإعلام التركية بعد أن اشترت مجموعة دميروران، ومجموعة دوجان الإعلاميتين. ووصلت الرقابة على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعى عبر الإنترنت إلى مستويات غير مسبوقة وتحاول السُّلطات الآن السيطرة على خدمات الفيديو عبر الإنترنت. ووافق البرلمان التركى العام الماضى على مشروع قانون يمنح المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون التركى سُلطة تنظيم جميع أنواع البث عبر الإنترنت. وتستمر حكومة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بالتضييق على الحريات الصحفية، والحريات العامة فى البلاد، فرفضت تجديد بطاقات العمل لعدد من الصحفيين، فى إطار التشديد عليهم، ودفعهم للإذعان لإملاءاتها، والتقيد بالشروط التى تفرضها عليهم. أيضًا أصبحت الإساءة للأوضاع الاقتصادية وبخاصة العملة التركية المنهارة "الليرة" آخر الاتهامات التى ابتكرها أردوغان لتوجيه اتهامات يعاقب عليها بالسجن ضد الصحفيين. ويكفى هنا أن نشير الى المطالبة بالسجن 5 سنوات لصحفيين يعملان مع وكالة بلومبرج العالمية فى تركيا، لنشرهما مقالًا فى 2018 عن انهيار الليرة التركية فى خضم الأزمة الاقتصادية فى البلاد. فى الإطار، ورَدّا على الحال المأساوى الذى وصلت إليه الأوضاع فى تركيا، تقدَّم الصحفى التركى الشهير بمقالاته الكاشفة عن خفايا «الانقلاب المدبر»، أحمد نسين، بطلب للسُّلطات التركية من أجل التخلى عن الجنسية التركية. وعبر حسابه بموقع «تويتر»، قال «نسين» فى يوليو الماضى، إن السُّلطات التركية اعتقلته أثناء توليه رئاسة تحرير صحيفة «أوزجور جوندام» بسبب مقالاته عن الانقلاب المزعوم مما اضطره لسفر والإقامة فى باريس. وانتقد الصحافى حزب العدالة والتنمية الحاكم قائلًا إن “(حزب أردوغان) هو تعريف دقيق للغاية، ففى الواقع لا يوجد حزب (العدالة والتنمية) وإنما حزب أردوغان فقط. وناهيك عن خسارته فى الانتخابات المحلية الأخيرة، فهذا الحزب لا يمكن له أن يستمر بهذا الشكل مع مشاكله الخطيرة تجاه المواطنين الأتراك». وتُصَنَّف تركيا وفقًا لمنظمة "حملة الشارة الدولية لحماية الصحفيين" ومقرّها جنيف، على أنها أخطر مكان للعمل الصحفى، حيث تُعَد أنقرة أكبر "زنزانة لسجن الصحفيين" فى العالم، وبخاصة بعد حملة التطهير والإبادة السياسية التى أعقبت صيف 2016، وفى هذا السياق نشرت العديد من وسائل الإعلام العالمية تقارير تنتقد أوضاع الصحافة فى تركيا. ويبدو أن جرائم الدولة التركية ضد الصحفيين، ستظل عائقًا قويّا أمام مساعى انضمامها للاتحاد الأوروبى، الذى أكد أنه يقع على عاتق جميع الدول داخل الاتحاد الأوروبى وخارجه واجب الوفاء بالتزاماتها لحماية حرية التعبير وسلامة الصحفيين من خلال توفير بيئة قانونية ممكنة، وأخذ التهديدات ضد الصحفيين على محمل الجد، ومقاضاة الهجمات التى تقع بفاعلية.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة