السبت 15 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

العصر الذهبى لـ برودواى الشرق

أيام «زوبة الكلوباتية»!

تبقى المقاهى شاهدًا وسجلّا لتحولات مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمن على المقاهى توهجت أفكار الإصلاح، وبدأت اجتماعات تحرير إصدار الصحف، وكتبت كلمات أغانٍ خالدة. عرفت مصر المقاهى قبل قرون، لكنْ كثير من الانتعاش نال ذلك القطاع فى القرن التاسع عشر، وقد أحصى على باشا مبارك فى خططه 1027 مقهى فى القاهرة فى عام 1880، من بينها 232 مقهى فى قسم الأزبكية، و160 فى بولاق وعابدين.



العصر الذهبى لمقاهى القاهرة كان فى النصف الأول من القرن العشرين، خصوصًا فى العشرينيات، والثلاثينيات، وكانت القاهرة تزخر بالعديد من المقاهى التى تباينت اهتمامات رُوّادها، واختلفت من الانشغال بالقضايا السياسية والفكرية، مثل مقهى "متاتيا" الذى جمع المُصلح الكبير جمال الدين الأفغانى وتلاميذه من المشايخ مثل محمد عبده، ومن المدنيين مثل سعد زغلول وقاسم أمين وعبدالله النديم وغيرهم.  وبموازاة الحراك السياسى والفكرى والثقافى الذى كانت تشهده مصر فى تلك الفترة المبكرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكانت المقاهى واحدة من أدوات ترجمته.  كانت مصر أيضًا تشهد صعودًا مبهرًا لحركة فنية نشطة، شملت تقريبًا كل أوجه الحياة الفنية الراقية والشعبية، من فنون الرقص الشعبى وإحياء الأفراح وحفلات الطهور والموالد، مرورًا بفنون السينما والمسرح والغناء، ووصولًا إلى فنون الأوبرا والفن التشكيلى والنحت، وكان من الطبيعى والمنطقى أيضًا أن يسعى أبناء الساحة الفنية والمشتغلون بتلك المجالات إلى البحث عن أماكن مناسبة للقاءاتهم وتجمعاتهم، وأيضًا مكان يقصده من يريد الاتفاق معهم على تنظيم الاحتفالات أو المشاركة فى الأعمال السينمائية والمسرحية، أو من يبحث عن أفراد لفرقته الموسيقية.  وهكذا نشأت فكرة المقاهى الفنية، التى امتازت بقدرتها على تحقيق "ديمقراطية الفن"، فيتساوى فيها المشهورون والمغمورون، ويتجاور على مقاعدها من يبدأون أولى خطواتهم فى طريق الفنون، ومن قطعوا مشوارًا طويلًا فى دروب العمل الفنى الساحرة. ولأن منطقة وسط البلد والعتبة قد استقطبت مقاهى المثقفين والصحفيين والساسة من الطبقات العليا، فكان من المنطقى أن يبحث أبناء "كار" الفن عن مقصد لهم يتجمعون فيه، وكانت تلك الوجهة هى شارع محمد على، الذى اشتهر منذ تأسيسه باستقطاب العوالم المشهورة فى إحياء الأفراح والليالى الملاح، وعاشت بين جنباته أسماء لمعت فى هذا المجال. شارع محمد على بحد ذاته قصة تستحق أن تُروَى.  فعندما تم التفكير فى إنشاء الشارع أراد له مخططو القاهرة الحديثة، أن يكون على نسق شارع "ريفولى" فى باريس، ليكون مجمعًا للكتب والمطابع، وحلقة الوصل بين محل الحُكم فى القلعة وحتى الأزبكية، مقر حراسته وحاشيته، ويتوسطه متحف الفن الإسلامى، ودار الكتب، التى كانت تُعتبر دُرّة دُور المخطوطات فى العالم، وقد قام بتخطيطه المهندس الفرنسى "هوسمان" الذى خطط شارع ريفولى فى باريس، وأسند إليه تخطيط "شارع محمد على" على طراز الشارع الباريسى الشهير نفسه .  ولم يدرك بُناة ذلك الشارع المبدع أنه سيتحول بمرور الزمن إلى أشهر شوارع القاهرة فى الفن والموسيقى، أو أن جانبيه سيرصعان بالأنتيكات والآلات الموسيقية والفِرَق المسرحية والشعبية، ومنها فرقة "حسب الله"، أشهر فرقة للفنون الشعبية والاستعراضية، لم يكن يعرف أن الشارع سيكون صاحب الفضل على عدد كبير من نجوم السينما والتليفزيون. رمز الفلكلور ترجع شهرة شارع محمد على الفنية لقربه من الأوبرا المصرية القديمة، كذلك منطقة الأزبكية التى ضمت المسارح الفنية والمقاهى والكازينوهات الخاصة بأهل الفن، إضافة إلى قربه من شارع عماد الدين، دُرّة المسارح والسينمات الشهيرة، وتظهر محال بيع الآلات الموسيقية والمقاهى الفنية فى شارع محمد على، لتحل محل أماكن بيع الكتب. وفى تلك الفترة نشطت الحركة الفنية، وانتعشت سوق الغناء والطرب على وجه التحديد، وعُرف شارع محمد على بأنه قِبلة لعشاق الفن والموسيقى، وانتشرت فيه عشرات المحال التجارية، التى تعدد وتنوع نشاطها وكان نواة لتأسيس معهد الموسيقى العربية عام 1913، عندما قام الملك فؤاد الأول بتأسيس نادٍ للنهوض بالموسيقى لينقل إلى المنزل رقم 7 فى شارع البوستة فى العتبة القريب من شارع محمد على، ثم جاءت فكرة إنشاء دار كبرى للموسيقى فى شارع الملكة نازلى، رمسيس حاليًا وهو الموقع الحالى لدار الموسيقى العربية الذى افتتحه الملك فؤاد الأول فى 1926. لكن ذلك لم ينل من مكانة شارع محمد على الذى كان طوال نصف قرن قِبلة لعشاق الفن والموسيقى، وساهم كثيرًا فى تقديم نجوم الغناء والسينما، فقد احترف أهله الطرب والرقص، منذ أنشأ حسب الله الأول فرقته، مع سنية كسارة وزوبة الكلوباتية. ولاتزال محال بيع الآلات الموسيقية موجودة فى الشارع حتى الآن تعرض وتبيع الآلات على جميع مستوياتها من النحاسيات والآلات الإيقاعية، مثل النقرزانات وآلات السنطور والفيولا والباندير والصاجات والمزمار البلدى والأرغول والناى والأكرديون والإكسلفون والبزق والعود التى تجذب السياح للتعرّف على تاريخ الشارع.  ورُغم التحولات العميقة التى طرأت على الشارع واندثار كار العوالم، وتراجع مكانة الآلات الموسيقية التقليدية التى اشتهرت ورش ومحال شارع محمد على بتصنيعها وبيعها، فإن الشارع لايزال محتفظا برمزيته الفنية فى وجدان المصريين، الذى حفظته أيضًا الذاكرة الفنية فى أعمال فنية سينمائية ومسرحية حملت اسم الشارع التاريخى، أو جرى جانب من أحداثها به. وارتبط اسم شارع محمد على بالعوالم والآلاتية، ولكنه لم يكن يومًا شارعًا مبتذلًا، إذ إنه يمثل التراث المصرى والفلكلور بكل أشكاله، وعلى عكس شوارع ارتبطت أيضًا أسماؤها بالعوالم، لم يكن هذا الشارع مرتعًا للبذاءة، بل كان قبلة لكل الفنانين والمثقفين، فهو يمثل الفن الشرقى الأصيل، فبينما تميز شارع عماد الدين بالبيانو والجيتار والآلات الغربية، تميز شارع محمد على بالطبلة والعود والمزمار والفن الشرقى. مقهى "التجارة" كانت المقاهى شاهدًا على التطور السياسى والفكرى الذى شهدته مصر، كانت تلك المقاهى أيضًا شاهدًا بل وشريكًا فى صناعة تاريخ شارع محمد على، ولعل أبرز المقاهى التى احتضنها "برودواى الشرق". كان مقهى التجارة، وهو واحد من أقدم المقاهى فى مصر وأبرزها، وكان المقهى من العلامات البارزة التى صَنعت تاريخ شارع محمد على، فقد كان جزءًا من العصر الذهبى لفن الطرب والموسيقى فى مصر، حيث كان المقهى مركزًا لتجمُّع الفنانين والموسيقيين والمطربين.  ويقع مقهى "التجارة" أو "قهوة التجارة"- كما يشيع على ألسنة الناس- أمام "سوق الخضار، فى أول شارع محمد على وبداخله حجرة كان يجلس فيها الفنانون يؤدون البروفات، كما جلس على مقاعد هذا المقهى أسماء بارزة فى عالم الفن، منهم  نعيمة عاكف، وتحية كاريوكا، وعائلة الحلو، وصالح عبدالحى، وكارم محمود ومحمد عبدالمطلب ومحمد الكحلاوى ومحمد العزبى وشفيق جلال وإسماعيل يس وغيرهم. ووفقًا لما أورده الأديب الراحل، جمال الغيطانى، من معلومات تاريخية فى كتابه "القاهرة فى ألف سنة"، يُعد مقهى التجارة من أقدم مقاهى القاهرة، ويزيد عمره الآن على مائة وعشرين سنة، ومعظم رُوّاده من الموسيقيين العاملين فى فِرَق "حسب الله"، وحسب الله كان أحد الموسيقيين فى جوقة الخديو إسماعيل إلى أن أنهى خدمته وأسَّسَ أول فرقة موسيقية تصاحب الأفراح والجنازات، ورُغم تحوّلات الزمن، ولجوء الكثير من مقيمى الحفلات إلى الـ"دى. جى"، فإن فرقة "حسب الله" تظل موجودة، وتشارك فى بعض الحفلات والأعمال الفنية، حتى إن لم تعد بنفس كيانها السابق، الذى كانت "قهوة التجارة" مقرّا رسميّا لها، لكن السنوات الأخيرة حملت نهاية مؤلمة لرحلة مثيرة فى عالم الفن، حيث تحوّل مقهى التجارة إلى سنتر لبيع مستلزمات الهواتف المحمولة، وهى نهاية تترجم ما آل إليه مصير أشهر شوارع الفن فى الشرق. المقهى المنافس مقهى آخر، كان واحدًا من الوجهات الفنية المتميزة فى شارع محمد على، وطالما تنازع المنافسة مع "مقهى التجارة"، خصوصًا فى ذروة انتعاش النشاط الفنى بالشارع، هذا المقهى هو "قهوة المشير"، الذى تحول أيضًا إلى مقر إضافى يجلس عليه  بعض منتسبى فِرَق "حسب الله"، ولايزال إلى اليوم يجلس عليه ما تبقى من أعضاء تلك الفرقة الشهيرة. حمل المقهى اسم صاحبه "نجيب السواق"، ويعود تاريخه إلى عام ١٩٥٠، وقد حمل المقهى بين جدرانه إرثا فنيّا كبيرًا كشاهد على مسار الفن بتغيراته العديدة،  خصوصًا عندما اعتمدت قهوة "نجيب السواق" فى فترة لاحقة مقرّا رئيسيّا لفرقة "حسب الله".  ولمن يَزُر الشارع، فإن عليه أن يبحث عن مقهى "المشير" الذى بالكاد يظهر مدخله الرئيسى وسط محال الموبيليا التى باتت تملأ الشارع، ويحتفظ لنفسه ببابين من الخشب، لا يبدو أنهما يغلقان ليلا أو نهارًا، الأول يطل على شارع محمد على ببواكيه الحَجرية ذات الطراز الفرنسى، التى لم يتبق منها إلا القليل، والثانى مفتوح على ناصية شارع جانبى، ورُغم كل تلك الظروف الصعبة، فإنه يُحسَب لمقهى المشير، أنه يقاوم إلى اليوم عوامل الاندثار التى أطاحت بكل منافسيه من مقاهى شارع محمد على. ورُغم أن الشهرة الفنية كانت هى الطاغية فى كتابة مسيرة وتاريخ شارع محمد على، فإن من يبحث فى تطور نشاط ذلك الشارع لا بُدّ أن يتوقف أمام حضوره فى الساحة الثقافية والفكرية، فلم يكن الفن بمعزل عن الحركة الثقافية النشطة فى مصر فى تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، التى شهدت أوج النشاط الثقافى والفكرى والفنى فى تلك المنطقة من شوارع القاهرة الخديوية. وإذا كان قُرب شارع محمد على من دار الأوبرا القديمة قد ساهم فى تعزيز نشاطه الفنى، فقد كان احتضان الشارع لواحد من أهم مراكز صناعة الفكر والثقافة فى مصر سببًا فى نيله حظا وافرًا من الحضور الثقافى، رُغم أن الشهرة الأكبر فى هذا المجال حازتها شوارع أخرى ومقاهٍ مختلفة، فقد توسط متحف الفن الإسلامى ودُرّة دُور المخطوطات (دار الكتب والمخطوطات المصرية) شارع محمد على، وكانت تلك المواقع قبلة الباحثين والمفكرين والشعراء والمثقفين، لذلك كان من البديهى أن تتجه المقاهى إلى مواكبة تلك الحركة، فظهر مقهى شهير بشارع محمد على وهو مقهى "الكتبخانة" أو "قهوة دار الكتب" لصاحبها الراحل "أحمد محمد العزيزى".  ويقع الكتبخانة فى نهاية شارع محمد على أمام دار الكتب، وقد اكتسب شهرته الواسعة من رُوّاده المميزين من رموز الحركة الثقافية والفكرية فى مصر آنذاك، فقد كان يجلس عليه  الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، ويقال إن "شاعر النيل" الذى كان يشغل منصب وكيل دار الكتب حوّل المقهى إلى مكتبه الرئيسى، لأن سلالم دار الكتب عالية صعبة الارتقاء، وكان الموظفون يُحضرون له الأوراق الرسمية، التى يجب أن يوقّع عليها فى المقهى. كما اشتهرت "قهوة دار الكتب" بالعديد من الأسماء التى كانت تتردد عليها بحُكم ترددها على دار الكتب والوثائق، ومنهم أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، والكاتب أحمد محرم، والشاعر عبدالمطلب، والشيخ عبدالعزيز البشرى، وكان هؤلاء العمالقة وغيرهم يحرصون على الجلوس بالمقهى عند خروجهم من دار الكتب، ويتجمع معهم المثقفون وطلاب العلم، ويدور الحديث عن الشعر والأدب. وقد استطاعت "قهوة دار الكتب" الصمود  لسنوات طويلة فى المنافسة القوية التى كانت مشتعلة مع مقاهٍ ثقافية أخرى مثل مقهى ريش فى وسط البلد، ومقهى "الندوة الثقافية"، لكن عوامل الزمن كانت أقوى من الاحتمال، فمع انتقال دار الكتب والوثائق المصرية التى كانت تضم المخطوطات النادرة، وأمهات الكتب، والمراجع والعملات الأثرية، إلى مقر الهيئة العامة للكتاب على نيل القاهرة، ثم تطوير المبنى، وتحويله لمركز للدراسات العربية والشرقية، تراجعت مكانة المنطقة، واتجه الحضور الثقافى إلى وجهات أخرى، وانحسرت الأضواء بالتبعية عن "قهوة دار الكتب"، التى كانت  يومًا ما نقطة مضيئة فى تاريخ الحركة الثقافية المصرية. مصارعة الديوك  عرف شارع محمد على العديد من المقاهى الفنية التى لم تعمر طويلا أو تعرضت للاندثار وتغيير النشاط، ومن المؤسف أن العديد من الكتب والمراجع التى تناولت تاريخ شوارع القاهرة تخلو من معلومات وافية عن تلك المقاهى، ومنها مقهى "حلاوتهم" الذى اشتهر بتجمع الراقصات وفِرَق العوالم عليه، وكانت تتم التعاقدات على إحياء الأفراح والحفلات الخاصة بين جنباته، كما اشتهر بتجمُّع ما يشبه السماسرة أو القمسيونجية الذين يتولون الترويج لبعض الفرق، مقابل تقاضى عمولة من الفرقة التى ينجح فى إبرام اتفاق لها على إحياء إحدى المناسبات السعيدة، ولا تجد ذِكرًا لهذا المقهى إلّا على ألسنة بعض قدامَى رُوّاد شوارع محمد على، الذين لايزالون يتذكرون ملامح ذلك المقهى وتجمُّع الآلاتية والعوالم بين جدرانه. وفى شارع محمد على كانت "قهوة العالية"، ولها سلالم تصعد إليها، وكان رُوّادها من أبناء حى الحلمية والمغربلين والقلعة وعابدين، وكان القهوجى يعرفهم واحدًا واحدًا، ويطرد أى غريب من القهوة بلياقة، ومن أشهر رُوّادها الشاعر محمد الهراوى، والشاعر الشيخ محمد الأسمر. ومن المقاهى الشهيرة كذلك التى كان يضمها شارع محمد على "كازينو شريف"، وكان المقهى محاولة لتقديم صورة أكثر رُقيّا من المقاهى الشعبية، لذلك اتخذ مسمى "الكازينو" وليس "قهوة"، لكن ذلك لم يوفر الحماية للمكان من عوامل الاندثار بفعل الزمن، فتم تحويل "الكازينو" إلى صيدلية. وكان هناك أيضًا فى شارع محمد على مقهى بلدى يعشق صاحبه مصارعة الديوك، لذا كان يأتى إلى المقهى الأثرياء لمشاهدة العروض التى يقدمها.  

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق