عندما اشترى الصعيدى مقهى ريش
قبل الزمان.. بـ«زمان»!

محمد أبو الدهب
لم يكن «ريش» يومًا مُجرد مقهَى ومطعم شهير بوسط القاهرة، لكنه كان ولايزال الواحة التى يرتادها أهلُ الفنِّ من كُتّاب، وشُعراء، وتشكيليين، وسينمائيين، ومسرحيين، إلى جانب وزراء، ورجالِ دولة، وسياسيون، ومُفكِّرِين، وأساتذة فى مُختلفِ المعارف. مقهَى «ريش» أو «كافيه ريش»، هو واحد من أهمِّ وأقدم مقاهى وسط البلد. يقع ريش الآن، أسفل العمارة رقم 29 شارع طلعت حرب، ويطل من ناحية أخرى على ناصية مَمَر البُستان السعيدى. تُشير الوثائق التاريخيّة إلى أن شارع سُليمان باشا الفرنساوى - طلعت حرب حاليًا، كان فى بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر، مجموعة من القصور والسّرايات، من بينها قصر الأمير محمد على، ابن الخديو توفيق، قبل أن يتركه وينتقل إلى قصره الجديد فى منطقة المنيل. وبعد مغادرة محمد على قصره؛ قررت إدارة التقسيم برئاسة دويدار باشا تحويل الشارع إلى مجموعة من العمائر على الطراز الأوروبى، وإعادة تخطيط شارع وميدان سُليمان باشا، على نمط تخطيط ميادين وشوارع باريس؛ فعهدت إلى الشركة المصرية العقارية المتحدة ببيع الأراضى؛ فاشترت عائلة «عادا» اليهودية مساحة ألفَين و553 مترًا، مقابل 12 ألفًا و770 جنيهًا، وسجّلت الأرض فى المحكمة المختلطة بتاريخ 29مارس 1905، تحت رقم 11023. وقامت ببناء العمارة التى يقع فى دورها السفلى مقهَى «ريش». واشترى ثَرى نمساوى يُدعى «بيرنارد ستينبرج» الدور السفلى عام 1908، ثم أسّسَ عليه مقهَى جديد، وافتتحه رسميًّا، فى أكتوبر عام 1914؛ فكان من أوائل المقاهِى الأجنبيّة التى أنشئت فى القاهرة، وكان يقع فى مواجهته المبنى الذى كان يُقيم فيه جنود قوات الحلفاء خلال الحرب العالميّة الأولى، لكنه اضطرَّ بعد نحو عام من الافتتاح إلى بيعه لرجُل أعمال فرنسى يُدعى المسيو «هنرى ريسيه»، الذى أطلق عليه اسم عائلته «ريس»، الذى حُرّف إلى «ريش»، وهو الاسم الذى لايزال يُطلق عليه. ومع تصاعد الحرب العالمية الأولى بين الحلفاء والمحور تم استدعاء صاحب المقهَى لأداء خدمته العسكرية فى جيش بلاده؛ فاضطر لبيعه عام 1916 للـخواجة اليونانى «ميشيل بوليتس»، الذى كان يعمل مديرًا لمسرح «الحمراء» بالأزبكية، فأضاف إليه تياترو فى حديقته. وفى عام 1932 باعه «بوليتس» ليونانى آخر يُدعى «وسيلى ماتولاكس». ومع تصاعد أجواء الحرب العالمية الثانية؛ باع «لاكس» المقهَى إلى يونانى ثالث يُدعى «جورج إفتانوس وسيلى» عام 1942؛ فظلَّ محتفظًا بمِلكيته وإدارته حتى قرر العودة إلى بَلده فى عام 1960؛ فعرض عليه أحد القساوسة من روّاد المقهَى بيعه لموظف مصرى من أصول صعيديّة، يعمل بالسكة الحديد، يُدعى «عبدالملاك ميخائيل». ومن الستينيات؛ ظلَّ المقهَى مُحافظًا على تراثه، ومتوسّعًا فى نشاطه الثقافى، حتى حدث زلزال 1992، الذى أحدث شروخًا فى المبنى؛ فأغلق لعمل الترميمات اللازمة، وإدخال الإصلاحات. وظل مُغلقًا طوال عقد التسعينيات، حتى أعيد افتتاحه عام 2001، على يد نجل صاحبه «ميشيل عبدالملاك»، ثم تولّى إدارته شقيق الأخير «مجدى عبدالملاك». تياترو فى القهوة تُشير الوثائق إلى أن المقهَى لم يكن على صورته الحالية فى عشرينيات القرن الماضى؛ فكان يمتدُّ من أسفل العمارة التى بنتها عائلة «عادا» حتى ميدان سُليمان باشا، وكانت له خمسة أبواب، يُفتح منها أربعة فقط فى المُناسبات، بينما يُخصص الخامس لكبار الزوار. وعُرف عن مالكه الثالث، اليونانى «بوليتس» ولعه بالفن؛ خصوصًا التمثيل المسرحى؛ فشرع من حينها إلى تحويل هذا المقهَى لمُلتقى لأهل الفن، والأدب. وفى سبيل ذلك؛ استأجر الأرض الفضاء الممتدة من مقر المقهَى إلى الميدان، وأنشأ لها حديقة كبيرة، أقام على جزء منها مسرحًا جديدًا، سَمّاه «تياترو ريش»، مثّلت عليه بعض الفِرَق المسرحيّة الشهيرة عروضها المسرحيّة، وغنّى عليه أبرز المطربين. فور دخولك من باب المقهَى الآن نجد البهو الرئيسى، الذى تُزيّن جدرانه العديد من الصور لأشهر روّاده ، وصورة لـ «فلفل النوبى»، وهو محمد حسين صادق، أشهر جرسونات المقهَى، الذى عمل به نحو 50 عامًا؛ فضلًا عن مُجسّمات تاريخية، ومُقتنيات قديمة يفوح منها عبق الماضى، من بينها مُشغّل أسطوانات قديم. فنانون ومثقفون منذ أول عهده؛ كان «ريش كافيه» ملتقَى أهل الفن والسياسة والصحافة، والمثقفين، ليس من المصريين فقط، بل من جميع أقطار الوطن العربى؛ فضايفت مقاعده روّاد الأدب والصحافة والفن. وفى «ريش» غنّى الشيخ أبوالعلا محمد، وصالح عبدالحى، ومنيرة المهديّة، وزكى مراد، والشيخ أحمد إدريس، وسيد درويش، وأم كلثوم التى خصص لها حفلات أسبوعيّة بالمقهَى فى مساء يوم الخميس من كل أسبوع. ووقف على خشبة مسرحه أبطال فرقة عزيز عيد المسرحية، وبطلته روز اليوسف؛ ووضع أشهر الملحنين والموسيقيين ألحانهم مثل محمد القصبجى، وارتاده مشاهير الممثلين. وفى بعض أركانه جلس مشاهير السياسة والسُّلطة، أبرزهم الزعيم سعد باشا زغلول، والرئيس جمال عبدالناصر، وأعضاء مجلس قيادة الثورة، وصدام حسين، رئيس جمهورية العراق الأسبق، وقحطان الشعبى، أول رئيس لجمهورية اليمن الشعبية، والأخضر الإبراهيمى، السياسى الجزائرى، وغيرهم. ومنه خرجت مظاهرات، وكُتبت بيانات، وطُبعت منشورات، وابتكرت مشاريع أدبية جديدة. وكان «ريش» أيضًا شاهدًا على قصة حب شهيرة، بين الشاعر الشهير الراحل أمل دُنقل، وزوجته الصحفية عبلة الروينى، التى تروى تفاصيلها فى كتابها «الجنوبى»، وكيف تم أول لقاء بينهما فى «ريش كافيه»، الذى اعتاد «دُنقل» ارتياده مساء كل يوم، وإجراؤها حوار صحفى معه ، تبعه لقاءات على المقهَى نفسه حتى الزواج. دور وطنى ولعب "ريش" دورًا قوميًّا ووطنيًّا خلال ثورة 1919؛ فكان مُلتقيًا للثوّار، واستخدمت كقاعدة لتنظيم الاجتماعات السريّة، وطباعة المنشورات التى تُندد بالاحتلال الإنجليزى لمصر؛ وقيل إن إدارة الكافية عثرت على سرداب سرى خلف أحد الجدران بعد انهيار جزء منه إثر زلزال 1992، ووجدوا بداخله ماكينة طباعة يدويّة قديمة، يُعتقد أنها كانت تستخدم لطباعة المنشورات. وتشير إحدى الروايات إلى أن مالك المقهَى فى ذلك الوقت ابتكر حيلة ذكيّة للتغطية على أصوات ماكينات الطباعة داخل المخبأ السرى بالمقهَى، عن طريق إقامة حفلات موسيقية صاخبة. ومن بين الأحداث الشهيرة، التى وقعت أمام مقهَى «ريش» محاولة اغتيال يوسف باشا وهبة، رئيس الوزراء ، فى ديسمبر 1919، بتفجير موكبه، بواسطة عريان سعد، بسبب اتهام يوسف باشا بالموالاة للإنجليز. ومكث «عريان» على مقهَى «ريش» يحمل قنبلتين، منتظرًا موكب رئيس الوزراء المقرر مروره بشارع سليمان باشا. وحُكم عليه إثر ذلك بالأشغال الشاقة. وتشاء الأقدار بعد مرور كل هذه السنوات، أن يجتمع أحفاد الاثنين على المقهَى نفسه «ريش»، ويتصالحان. ويشير الكاتب الراحل مكاوى سعيد فى كتابه «مقتنيات وسط البلد»، إلى أن أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا يجتمعون فى بعض الأحيان بهذا المقهَى فى نهايات الحُكم المَلكى، وقبيل اندلاع ثورة يوليو 1952. كما شهد المقهَى فى عام 1972، حادثًا ثقافيًّا أحدث ضجة واسعة فى الوطن العربى؛ حيث انطلقت منه انتفاضة الأدباء والمثقفين الوطنيين، احتجاجًا على اغتيال غسان كنفانى، الروائى الفلسطينى الشهير. ومنه أيضًا خرجت انتفاضة الطلاب عام 1972، كذلك أصدر توفيق الحكيم بيانه السياسى الشهير فى اليوم نفسه، الذى طالب فيه بإنهاء حالة "الـ لا سلم والـ لا حرب" مع إسرائيل أيامها، والذى وقّع عليه عدد كبير من الكُتّاب والمُثقّفين. ملتقى الأفندية ورد «ريش كافيه» فى العديد من المؤلفات.. فذكر المؤرّخ عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «تاريخ مصر القومى 1914- 1921» أن «ريش» كان ملتقى الأفندية من الطبقة الوسطى، ومقرّا يجتمع فيه دُعاة الثورة، والمتحدثون بشأنها، وشئون البلاد العامة؛ ومَعقلًا لمختلف الطلائع السياسية المُتحررة من التعصُّب الحزبى، يتحاورون ويتسامرون ويتندرون ويتشاغبون؛ لكنهم غالبًا ما يتفقون على موقف واحد فى مواجهة الملمات الكبرى، التى تحتاج إلى التحشُّد، والوحدة الوطنية. ويُمكن اكتشاف تلك الأهمية البالغة التى اكتسبها «ريش» عند أهل الفن، وأرباب الثقافة، على مدى تاريخه؛ من أسماء بعض المؤلفات الأدبيّة، التى تحمل اسمه، مثل ديوان «بروتوكولات حكماء ريش» للشاعر نجيب سرور. ويُقدّم «سرور» فى ديوانه مجموعة من البروتوكولات فى قوالب شِعريّة، يستهلّها بمقدمة، يقول فيها: «نحن الحكماء المجتمعين بمقهَى ريش.. من شعراء وقصاصين ورسّامين.. ومن النُّقَّاد سحالى «الجبانات».. حملة مفتاح الجنة.. وهواة البحث عن الشهرة.. وبأى ثمن.. والخبراء بكل صنوف «الإزمات» مع تسكين الزاى.. كالميكانيزم!، نحن الحكماء المجتمعين بمقهَى ريش.. قررنا ما هو آت:...». ولأن الأديب الراحل نجيب محفوظ، كان أحد أشهر روّاد هذا المقهَى التاريخى؛ فإنه يروى فى مذكراته بعض الأحداث البارزة التى جرت أثناء جلوسه داخل «ريش كافيه»؛ فيشير إلى بيان الرئيس عبدالناصر بعد نكسة يونيو 1967؛ فيقول: "وفى مساء الجمعة، ذهبت إلى مقهَى ريش، وجلست مع بعض الأصدقاء، وتحلّقنا جميعًا حول جهاز راديو ترانزستور فى انتظار بيان عبدالناصر، وتحدث ، ونحن نستمع فى صمت رهيب، وكان بيانا مهيبًا، شعرتُ بعد انتهائه بأننى أصبت بشرخ فى داخلى؛ فانسحبت فى هدوء، وعدت إلى بيتى". كما كان «ريش» المنبع الذى خرجت منه مشاريع ثقافية مهمة، منها مجلة الكاتب المصرى لطه حسين، و«جاليرى 68»، ومجلة الثقافة الجديدة، وغيرها من الأعمال الأدبيّة.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة