ثورة استرداد الهوية ورممت النسيج الوطنى
مكتسبات المواطنة بعد «30 يونيو»
على الفاتح
لم تكن 30 يونيو مجرد ثورة ضد حكم دينى غاشم، ولم تكن ثورة ضد محتل أجنبى وعدو واضح، فالثورات التى تشتعل ضد أنظمة فاسدة أو احتلال أجنبى لا تحتاج إلى وعى من نوع خاص؛ لأن المعاناة توحّد جميع طوائف وفئات الشعب ضد مصدرها أيّا كان.
كانت 30 يونيو ثورة فى العقل المصرى ضد منهج وأفكار وتصورات عقائدية فاسدة دشنتها أمّ جماعات الإرهاب، وروّجت لها باعتبارها الدين الصحيح منذ نشأت على يد الإرهابى حسن البنا.
وليس صحيحًا أن حكم جماعة الإخوان الإرهابية استغرق عامًا واحدًا فقط، فقد طال أمَده وامتد على مدار 85 عامًا بالتمام والكمال من 1928 إلى 30 يونيو 2013.
كان احتلالًا للعقل والوعى المصرى، استخدم أخطر أسلحة تدمير هوية وثقافة الشعوب- "الإسلام هو الحل"- شعارهم الشهير كان السلاح الأخطر.
كان احتلالًا للعقل والوعى المصرى، استخدم أخطر أسلحة تدمير هوية وثقافة الشعوب- "الإسلام هو الحل"- شعارهم الشهير كان السلاح الأخطر، وراحت تنشر أفكارًا تجعل من الدين انتماءً وهوية وليس مجرد عقيدة ومسألة إيمانية، وتلك كانت أول خطوة لضرب النسيج الوطنى المصرى الذى يمثل المصريون باختلاف أديانهم وعقائدهم خيوطه.
كل أحداث الفتنة الطائفية وحالات الاحتقان التى شهدتها مصر منذ سبعينيات القرن الماضى كانت نتاجًا مباشرًا لأفكار هذه الجماعة التى تكاثرت ذاتيّا مثل الأميبا؛ لتنتج جماعات وحركات أخرى حملت الأفكار نفسها.
لم تكن أمجاد الخلافة أداة الدعاية الوحيدة لمشروع الجماعة الإرهابية، الطعن فى الدولة والتشكيك الدائم فى مشروعيتها كونها لا تلتزم بما تسميه أدبيات الجماعة "الشريعة الإسلامية"، كان أداة الدعاية الموازية بهدف إقناع الرأى العام بفساد الدولة الوطنية، وفساد قيمة الانتماء للوطن، فكل النوائب والمصائب لم تأتِ إلّا بعد قيام الدولة الوطنية الحديثة، كونها دولة علمانية كافرة، ومن هنا كان تكفير الآخر غير المؤمن بأفكار الجماعة حتى لو كان إمام مسجد، أحد الأسلحة النفسية الخطيرة التى يتم استخدامها ضد عموم المصريين حتى لا يُسمح لهم بإعمال عقولهم فيما تروّجه الجماعة من أوهام وأفكار زائفة تحت ستار "الإسلام هو الحل"، بغرض تفكيك النسيج الوطنى، وكان شباب الدعاة بفتواهم وآرائهم ذروة حملة لاحتلال العقل المصرى وتزييف وعيه، لم تترك شيئًا إلا شوّهته ولوّثته.
الفن والثقافة كانا مجالًا آخرَ لضرب الهوية الوطنية والثقافية، تعرّضا لحملات تكفير وتشويه وأحيانًا تشهير وإساءة للسُّمعة، وقد نجحت الجماعة فعليّا فى اختراق هذا المجال فيما عُرف بهوجة اعتزال الفنانات والفنانين بارتداء الحجاب وإطلاق اللحية، ثم تصنيف الفن إلى نظيف وآخر خليع، وأصبحنا نسمع مصطلحات مثل السينما النظيفة.
المثقفون والمفكرون طالتهم حملات التكفير والتحريض على إسكات أصواتهم، كانت حربًا شعواء على كل من يحاول تفنيد ونقد ما سُمى بالإسلام السياسى، وتعرّض لنوع آخر من الاغتيال رائد تجديد الخطاب الدينى الدكتور نصر حامد أبوزيد، عندما تم التفريق بينه وزوجته بحُكم قضائى، فيما عُرفت بقضايا الحسبة، وفى السياق ذاته جاءت محاولة اغتيال أديبنا العالمى نجيب محفوظ.
وكان للمصريين المسيحيين نصيب الأسَد من حملات التكفير، فحوادث الاحتقان الطائفى لم تكن لتقع لولا أن الزوايا والمساجد التى سيطر عليها دعاة الإخوان، وما يُسمى بتيار الإسلام السياسى كانت تعج بفتاوَى تكفير المصريين المسيحيين، والتحريض عليهم، والإساءة إلى عقيدتهم، وهى حملة انتقلت إلى شاشات الفضائيات عبر رجال دين بارزين، وإعلاميين انشغلوا بالسؤال عن الفئة الناجية التى ستدخل الجنة، والفئة الهالكة التى ستدخل النار.
هذه الحملة لم تكن تستهدف تكفير المسيحيين المصريين بقدر استهدافها بث روح الكراهية، وتمزيق نسيج المجتمع، وتقسيمه إلى طوائف دينية محتقنة، وتغيير طبيعة المصريين المتسامحة والمتعايشة التى أذابت الكل داخل بوتقة الوطن دون تمييز أو فصل.
وللأسف عمل أغلب السياسيين مع هذا التنظيم الإرهابى بقدر كبير من الانتهازية، ورأينا حركات يسارية وليبرالية وقومية تتحالف معها ضد الدولة، بزعم الاصطفاف لمعارضة النظام، وتعاملوا مع هذه الجماعة الخائنة باعتبارها فصيلًا سياسيّا وطنيّا دون مطالبتها بالاعتذار عن تاريخها الدموى، ورفض أدبيات العنف والإرهاب ومعاداة الدولة الوطنية فى رسائل الإرهابى الأكبر حسن البنا وكُتُب الإرهابى سيد قطب.
صمتوا عن جرائم الجماعة وإرهابها، فما كان منها سوى الانقلاب والتآمر على حلفاء الأمس لتنفرد بالسُّلطة بعد أحداث يناير ٢٠١١، كان ذلك نتاجًا طبيعيّا لمسار استمر ثمانية عقود، انتهى باستيلاء الجماعة على عرش المحروسة، ولولا أن فى هذا الوطن روحًا واعية لاستمر حكمها ٥٠٠ عام كما كانت تخطط.
سرعان ما شعر المصريون بالخطر على هويتهم ونمط حياتهم، فاستيقظت داخلهم ثورة الوعى، فقد بدأ التقسيم الطائفى والدينى يأخذ مساره.
دعوات تحريض صريحة ضد المسيحيين المصريين فى كل مكان، اغتيال رجل دين شيعى مصرى وذبحه داخل منزله بدم بارد، المصريون ينقسمون إلى مسيحيين ومسلمين وإلى سُنّة وشيعة، الفتنة تمتد حتى بين الشباب والشيوخ؛ حيث علت أصوات تطالب باستبعاد كل أصحاب الخبرات من الكهول والشيوخ تحت دعاوَى زائفة لتمكين الشباب الثائر دون تأهيل أو إعداد.
مظاهر التقييد لحرية المرأة بدأت تطفو على السطح، حتى ذوى الهمم صارت تُستخدم آلامهم ومشاكلهم لأغراض سياسية دعائية دون تحقيق مطلب واحد من مطالبهم.
الشارع السياسى ينقسم إلى إسلامى مؤمن وآخر مدنى علمانى كافر وصحف وفضائيات الإخوان ترسّخ كل ما يدعو إلى الفتنة والفرقة، والهدف أن ينقسم المجتمع وتنفرد الجماعة بالحُكم.
بهذا المعنى كانت 30 يونيو ثورة وعى ضد محتل غاشم ظن أنه أحكم القبضة على عقل ووجدان المصريين، ولذلك أفرزت نظامًا سياسيّا مُعبرًا عن جوهر مطالبها، وهو الحفاظ على الهوية المصرية التى كادت أن تضيع.
أدركت دولة 30 يونيو أن تعزيز المواطنة وقيمها هو السبيل الوحيد لترميم النسيج الذى احترقت بعض أطرافه؛ لاستعادة الهوية التى تعرضت لكثير من التشويش والتشويه.
لم يكن الأمرُ سهلًا أمام الرئيس "عبدالفتاح السيسى"، فالثقوب كثيرة، لكنه كان واضحًا كفاية أن أغلب الفئات والطوائف عانت من التهميش والتمييز السلبى، وهو ما أضر كثيرًا بالهوية المصرية، وبات ذلك يشكل خطرًا داهمًا على استقرار المجتمع والأمن القومى للبلاد، فاهتزاز الهوية يعرقل المجتمع فى عملية إنتاج أنماطه الثقافية المتسقة مع طبيعته.
وضوح المشكلة كان فى سهولة وضع حلولها عبر استراتيجية شاملة تستهدف استعادة هيبة الدولة، وإقامة علاقة سوية بينها وبين المواطن تقوم على احترام الدستور والقانون، من خلال خطط عملية تحقق هذا المستهدف.
هذه الاستراتيجية عَبّرت عنها بجلاء وثيقة القاهرة للمواطنة، التى صدرت عام 2019 عن المؤتمر الثلاثين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والتى قدّمت مصر من خلالها تجربتها لتكون قدوة للدول المسلمة التى عايشت ظروفًا مشابهة.
المواطنة المتكافئة مصطلح ابن شرعى للتجربة المصرية، فلا سبيل لتعزيز قيم المواطنة دون العمل على تكافؤ فرص الحياة المناسبة، والمساواة لجميع فئات المجتمع.
تجديد الخطاب الدينى، وهى دعوة أصيلة أطلقها الرئيس "عبدالفتاح السيسى" فى حملة ترشّحه للرئاسة للولاية الأولى، داعيًا إلى تجديد الفقه وتنقية الموروث متجاوزًا بذلك تعريفات أغلب منتديات رجال الدين الذين يُعرّفون التجديد بإحياء الفقه القديم، لا استحداث فقه جديد.
تطبيق القانون على الجميع دون تمييز أو استثناء؛ كونه منظم العلاقة بين الدولة والمواطنين.
تلك المحاور الثلاثة كانت ركائز الاستراتيجية المصرية، ويمكن تفكيكها برصد الإجراءات والخطوات التى اتخذتها الدولة لإرساء قيم المواطنة ولتعزيز الهوية المصرية.
فيما يتعلق بالمواطنة المتكافئة عملت الدولة على مسارين، الأول تمكين جميع الفئات المهمشة من حقوقها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، حتى تقوم علاقة سوية مع المواطن يلتزم فيها بواجباته تمامًا كما يحصل على حقوقه، فكان اهتمام الرئيس بالشباب والمرأة وذوى الاحتياجات الخاصة وخصّص عامًا لكل فئة لتسليط الضوء على قضاياهم، وتوعية المجتمع بقدراتهم وإمكاناتهم.
وبشكل عملى واجهت الدولة معاناة المسيحيين المصريين والخطاب التحريضى ضدهم ورسّخت حقهم فى أن تبنى لهم الدولة كنائس ودور عبادة تمامًا كما تبنى المساجد.
أول إجراءاتها العملية كان ترميم أكثر من 80 كنيسة تعرضت لأعمال تخريبية من قِبَل عناصر جماعة الإخوان، بعد أحداث فض بؤرتى الإرهاب فى رابعة والنهضة، ثم إعلان الرئيس "عبدالفتاح السيسى" قيام الدولة ببناء كنائس لجميع الطوائف المسيحية فى كل المدن الجديدة، وكانت كاتدرائية ميلاد المسيح فى العاصمة الإدارية المبنية على 15 ألف فدان، إلى جانب مسجد الفتاح العليم أكبر شاهد على أن هذه دولة كل المصريين.
الرئيس حرص على ترسيخ هذه القيمة باستنانه تقليدًا جديدًا وهو مشاركة الرئيس المصرى فى احتفالات عيد الميلاد المجيد بشكل رسمى، دون الاكتفاء ببرقيات التهنئة.
قانون بناء وترميم الكنائس كان أيضًا واحدًا من خطوات دولة 30 يونيو نحو تعزيز قيم المواطنة والمساواة، وإحياء الهوية المصرية المتسامحة، لا بل المتوحدة، التى لا تعير مسألة الاختلاف الدينى أى اهتمام، وقد تولت الدولة من خلال لجنة تقنين أوضاع الكنائس حل كل المشكلات المرتبطة بالكنائس القديمة التى بُنيت دون قرار جمهورى.
ترميم ما تضرر من النسيج الوطنى تطلّب أيضًا ضمان تمثيل من عانى من سياسات التهميش وخطاب التحريض والكراهية داخل أجهزة ومؤسّسات الدولة، فكانت تعديلات المادتين 243 و 244 من الدستور لترسّخ مبدأ التمييز الإيجابى لصالح فئات الشباب والمرأة والمواطنين المسيحيين وذوى الهمم والمقيمين فى الخارج والعمال والفلاحين، بتمثيلهم الدائم فى المجالس النيابية المصرية.
كما شهدنا تمكينًا لهذه الفئات جميعًا فى مناصب عليا عديدة بين وزراء ومحافظين ومساعدين لهم.
دولة 30 يونيو سعت لتحقيق المواطنة المتكافئة لسكان العشوائيات والقرى الأكثر فقرًا، فكانت مشاريع قومية مثل الأسمرات 1و2 وغيط العنب، وغيرها لتمكنهم من حقهم فى مسكن ملائم، وكانت مشروعات تطوير القرى الأكثر فقرًا ودعم أسرها وتشغيلهم فى المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.
فالحياة داخل عشش الصفيح بالمناطق العشوائية ووسط نيران الفقر تُفقد الإنسان إحساسه بهويته وانتمائه وتدفعه لإنتاج أنماط ثقافية مناقضة تمامًا لمجتمعه الكبير، بل وربما تكون معادية، وهو أيضًا ما أدركت دولة 30 يونيو خطره على الأمن القومى، ولذلك سعت لتحسين ظروف الحياة فى تلك المناطق بكل أبعادها ومستوياتها، وبما يعيد سكناها إلى حضن الوطن مجددًا ليشعروا بذواتهم كمواطنين درجة أولى، لا مهمشين ومستبعدين.
حتى المشروعات القومية الكبرى المتعلقة بالطرق والكبارى وإنشاء المدن الجديدة والمصانع والصوبات الزراعية، ناهيك عن مشروع استصلاح المليون فدان، كانت أيضًا تحقق المواطنة المتكافئة عبر توفيرها مئات الآلاف من فرص العمل، وهو حق أصيل للشباب لتنخفض معدلات البطالة من ١٣٪ إلى ٧٪، إذ لا يمكن قراءة هذه النسب من زاوية اقتصادية فقط؛ وإنما أيضًا من زاوية تعزيز قيم المواطنة، العاطل أيضًا يعانى التهميش بكل صوره إذا ظل بلا عمل.
استرداد الهوية والمحافظة عليها وتعزيز قيم المواطنة لا تكفيه الشعارات الرنانة، لكنها عملية معقدة مُرَكبة تتطلب خطوات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحقق المفهوم الشامل للمواطنة، فحينما يشعر المواطن بكونه مواطنًا يستقر ويهدأ ولا تأخذه أمواج الدعاية الكاذبة إلى موارد التهلكة، وإن كنا لانزال نعانى بقاياها، إلا أن الإرادة السياسية للرئيس والداعمة بقوة لتجديد الخطاب الدينى وتنقيته من الشوائب وفتاوَى التحريض والفتنة إلى جانب التغيرات الاقتصادية التى يُحدثها برنامج الإصلاح الاقتصادى، وما ينتج عنها من أنماط إنتاجية جديدة وتطوّر لمستوى دخل الفرد، علاوة على الإصلاحات السياسية المستمرة بتمكين المهمشين وتمثيلهم نيابيّا وسياسيّا؛ كل ذلك كفيلًا بإنتاج خطاب مجتمعى جديد بأبعاده السياسية والثقافية والدينية قادر على مواجهة مَن يقبضون على جَمر خطاب الكراهية والتحريض.
والفقه القديم الذى لن يستطيع الاحتفاظ بقدرته على التأثير فى مواجهة الخطاب المجتمعى الجديد الذى لايزال فى مرحلة التشكل والصياغة.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة