10 مشاهد تروى حكاية أبناء الوطن
د. أسامة السعيد
فى حياة هذا الوطن مَشاهد تنحنى لها الأساطير.. مَشاهد صنعها رجال لم يترددوا لحظة فى أن يمنحوا بلادهم أغلى ما يملكون.. حياتهم.
لم يتوقفوا يومًا ليسألوا لماذا نفتدى تلك الأرض بدمائنا؟؛ بل واصلوا فى هدوء وصمت سبيل الفداء والتضحية لتبقى راية الوطن خفاقة، فلم يستطع النَّيْل منها محتل غاصبٌ، أو إرهابٌ خسيسٌ.
مَشاهد البطولة فى حياة العسكرية المصرية أكثر من أن ترويها سُطور، أو تحويها صفحات، فالتاريخ مكتوبٌ بالدماء الصادقة على كل شِبر من أرض مصر؛ وبخاصة على أرض الفيروز، ففى سيناء تتجاور معجزات المصريين الذين لم تعرف تضحياتهم وبطولاتهم تفرقة فى الدين أو الأصل أو اللون، وفى ميدان البطولة المصرية "الدين لله والمَجد للجميع".
مشهد (1) (موقع عسكرى - مايو 1969)
اجتماع يسوده الصمت، الجميع يستمع فى تركيز لبعض الحقائق المُحبطة حول الساتر الترابى الذى أقامته إسرائيل لتجعل حلمَ عبور المصريين وعودتهم إلى سيناء مستحيلا، تتراكم الحقائق وتقديرات الموقف التى تشير إلى أن محاولات نسف ذلك العائق الكبير ستحتاج لأكثر من 15 ساعة، وكميات هائلة من المتفجرات، لكن الأخطر أنها تتطلب التضحية بنحو 20 % من القوات المشاركة فى نسفه.
تزداد حدّة الصمت، لكن داخل القاعة التى اجتمع بها عددٌ من الضباط ترتفع يد ضابط شاب لا يتجاوز عمره 35 سنة، يطلب الكلمة، ترنو إليه العيون التى كادت تصل إلى حافة اليأس قبل أن يتكلم:
الحل بسيط يا أفندم!
ألجمت الدهشة ألسنة الجميع، فلم يجد الضابط الشاب سوى أن يقطع الصمت مرّة أخرى ليشرح فكرته العبقرية قائلا:
الحل فى خرطوم المياه، وسنحتاج إلى طلمبات مياه ماصّة كابسة صغيرة تحملها الزوارق الخفيفة، وتمتص الماءَ من القنال وتكبسها وتصوّب مدافع مياه بعزم كبير على الساتر الترابى فتتحرك الرمال، وميل الساتر الترابى سيسمح بانهيار الرمال فى قاع القناة، ومع استمرار تدفق المياه سنفتح ثغرات فى الساتر بالعمق وبالعرض المطلوب، وعن طريق هذه الثغرات يتم عبور المَركبات والمدرعات إلى عمق سيناء.
تبدو الفكرة من فرط بساطتها جنونية، فتقديرات الخبراء السوفييت وكل الأفكار المطروحة تشير إلى أن مصر بحاجة إلى حلول خطيرة، وليس مجرد خرطوم مياه، لكن الضابط المهندس "باقى زكى يوسف"، كان مملوءًا بالثقة فى الله وفى وطنه قبل أن يثق فى نفسه، فقد جرّب تلك الطريقة خلال عمله ضمن فريق الضباط المهندسين بالسد العالى، ومن رحم المعاناة فى جنوب أسوان جاء الحل الذى تحول لاحقًا إلى أحد أسرار الدولة، والمفاجأة التى أذابت الغرورَ الإسرائيلى وطهّرت أرض سيناء إلى الأبَد، وبعدما وصلت الفكرة إلى الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، وأمر بتجربتها فى سبتمبر عام 1969 وليصل عدد تجاربها التالية إلى 300 مرّة، وعلى ضوء هذه التجارب تم إقرارها، وتنفيذها فى خطة العبور؛ لتكون تلك الفكرة أحد مفاتيح النصر الخالد.
مشهد (2) (منطقة الممرات - 9 أكتوبر 1973)
كانت لحظة العبور كالحلم الذى عاشَ آلافُ الجنود والضباط فى انتظاره، وعندما جاء لم يتركوه ليفلت من أيديهم، أحد هؤلاء الذين طالما حلموا بلحظة العودة إلى سيناء رجل اسمه "شفيق مترى سدراك"، يحمل رتبة لواء، وكان قائدًا للواء 3 مشاة ميكانيكى الفرقة 16 مشاة، رفض أن يبقى فى الصفوف الخلفية، وأصر على مشاركة رجاله حلمَهم الكبير ونصرَهم المَجيد، اندفع بقواته التى أجاد تدريبها متوغلا لمسافة 14 كيلومترًا فى عمق سيناء.
لم تكن مواجهة التاسع من أكتوبر أول مواجهة لـ"سدراك" مع العدو الصهيونى، فقد أذاق الغزاةَ مرارة الخسائر الفادحة بفضل صموده مع رجاله فى معركة "أبوعجيلة" عام 1967، وتُعَد من أرقَى معارك الجيش المصرى، كان وقتها قائدًا لكتيبة مشاة، وكبّد إسرائيل خسائر فادحة، ونال بسببها ترقية استثنائية من "جمال عبدالناصر."
فى ذلك اليوم 9 أكتوبر، كان "سدراك" يدير المعركة فى عمليات تحرير (النقطة 57 جنوب)، فى عمق الممرات وكان يتقدم قواته بمسافة كيلومتر فقط، وبينما قواته تتقدم نحو هدفها الذى رسمه لها بدقة، أصيبت سيارته بدانة مدفع إسرائيلى قبل وصوله إلى منطقة الممرات، وحينها جاد بالروح ليستشهد هو ومَن معه فى المَركبة وكانوا خمسة أبطال آخرين، وليكون "شفيق مترى سدراك"، أول ضابط شهيد فى حرب أكتوبر، وأول من نال وسام نجمة سيناء.
مشهد (3) (قاعدة جوية مصرية بسيناء - صباح 5 يونيو 1967)
فى ذلك الصباح الصيفى الساخن لم تسطع الشمسُ، بل كان الموتُ يطل مع الساعات الأولى، فإسرائيل بدأت هجومَها الغادر، والقواعد والمطارات العسكرية كانت هدفَها الأهم لشل القدرات الجوية المصرية، وبينما الطائرات الإسرائيلية تقصف مطاراتنا وطائراتنا الرابضة على الأرض، وبينما يتصور الطيارون الإسرائيليون أنهم قضوا على أحد أهم الجيوش فى التاريخ، إذا بموقف لا يخلو من رسالة ودلالة واضحة على أن الهزيمة لن تعرف طريقها إلى القلوب الجَسورة.
وقف أحدُ الطيارين المصريين الذى شاهد طائرته تحترق على الأرض رافضًا الاستسلامَ، وبدلًا من أن يجرى ليختبئ واجَه إحدى الطائرات المهاجمة بمسدسه الشخصى، كان يدرك أن تلك الرصاصات التى استقرت فى جسد الطائرة غير كافية لإسقاطها، لكنها كانت كافية لأن تخدش غرور الغزاة، وتعلن لهم أن الإنسان المصرى هو جوهر البطولات التى أجاد الجيش المصرى صناعتها عَبْر التاريخ.
عاد الطيار الإسرائيلى بطائرته مرة أخرى، ويبدو أنه أدرك الرسالة واستشعر الصفعة التى حاول الطيار "سمير عزيز" توجيهها إليه عبر رصاصات مسدسه الشخصى، ودار مَشهد يندر أن تجده إلا فى أفلام هوليوود، مطاردة بين طائرة مقاتلة ومقاتل فرد، أراد الطيار الإسرائيلى أن يقتل تلك الروح فى قلب الجنود المصريين، قبل أن يقتل "سمير عزيز"، لكن القدر انحاز للأخير؛ لينجو من تلك المطاردة العجيبة لكن الثأر لم ينتهِ.
أحد المَشاهد التى كشف عنها "سمير عزيز" بعد انتهاء الحرب، أنه خرج بطائرته من أحد مطارات الغردقة دون إعلان مسبق لقياداته، واتجه بطائرته إلى أحد مطارات جنوب سيناء، وتحديدًا مطار "رأس نصرانى"، وكان يصر على "العكننة" على الإسرائيليين، وإشعارهم بأن تلك الأرض لن تمنحهم الاستقرار، كسر "سمير عزيز" حاجز الصوت فوق المطار، وحلّق بطائرته فوق رؤوس الإسرائيليين الذين لم يستطيعوا التعامل مع تلك الصدمة المباغتة، ليعود "عزيز" إلى قاعدته سالمًا، مؤجلا المواجهة لوقت لاحق، وليكون الثأر الأهم فى أكتوبر 1973.
مشهد (4) (موقع الجزيرة الخضراء- 19 يوليو 1969)
فى ذلك الموقع الاستراتيجى الذى يتحكم فى المدخل الجنوبى للقناة، ورُغم كل محاولات الضغط الإسرائيلية للسيطرة على الموقع بعد هزيمة 1967؛ فإن بسالة الجنود المصريين أبقت السيطرة لمصر على هذا الموقع الاستراتيجى، الذى لا تزيد مساحته على ملعبَين لكرة القدم، وبناه الإنجليز خلال الحرب العالمية الثانية للتحكم فى المدخل الجنوبى للقناة وتأمينه.
بدأت العملية فى الساعة الثانية عشرة ليل 19 يوليو، كانت قواتنا نحو مائة جندى و5 ضباط، و30 صندوقًا لقنابل يدوية، بالإضافة إلى قذائف لهب وذخائر وألغام بَحرية تم زرعها تحت المياه لمواجهة ضفادع إسرائيل البشرية، كانت هذه القوات بقيادة النقيب "مجدى بشارة"، الذى لم يكن عمره وقتها يتجاوز 27 عامًا.
واجهت هذه القوات إنزال نحو 800 جندى إسرائيلى حاولوا التسلل بصمت لذبح كل الجنود المصريين، لتبدأ مواجهة عنيفة عجز الإسرائيليون خلالها عن دخول الصخرة بدماء شهدائنا.
استنفدت الذخيرة، وأصبح عدد جنودنا 24 فقط، وطلب "مجدى بشارة" إمدادًا من قائد الجيش الثانى، فأرسل له 40 جنديّا عبر لانش بحرى لكنهم استشهدوا بغارة إسرائيلية قبل وصولهم، وبعدها رفض قائد الجيش تكرار الإمداد قائلا لـ "بشارة":
حارب بما هو موجود لديك.
فقال له "بشارة": أرجوك بعد 10 دقائق افتح كل مدفعية الجيش الثانى على الموقع لإبادة كل مَن فيه.
فرَدّ قائد الجيش: أنت مجنون!
لكن "بشارة" حسم الموقف بكلمته الأخيرة لقائده:
نموت أفضل من سقوط الموقع.
أعطى "بشارة" أوامره لجنوده بنزول المخابئ، وتم فتح النيران ليحدث ما توقّعه، فالقوات الإسرائيلية لم تتحمّل وانسحبت، وأثناء الانسحاب طاردهم أبطالنا بمدفعَين فأغرقوا لنشات إسرائيلية، وقتل وفق الإعلان الإسرائيلى 62 وأصيب 110 آخرون، لتتحول "الجزيرة الخضراء" إلى ساحة موت وذكرى سوداء لإسرائيل وجنودها.
مشهد (5) (قبل ساعات من انطلاق حرب أكتوبر)
يروى اللواء "حاتم عبداللطيف"، وكان برتبة نقيب أثناء حرب أكتوبر، أحدَ المَشاهد التى لا ينساها فيقول: كنت قائد المجموعة الرابعة اقتحام، وتضم 58 جنديّا مسلمًا ومسيحيّا، وكان الشاويش "نصحى ميخائيل"، ضمن جنود المجموعة، وعندما طلبت المجموعة إخبارهم بموعد الحرب وقراءة الفاتحة، طلب منّى ألا تكون قراءتها فى صمت؛ وإنما أقوم أنا بقراءتها بصوت مرتفع ويكون رد المجموعة وراءه.
فسألته: ليه يا "صبحى"؟
فرَدّ: لكى أقرأها معكم.
يواصل اللواء "حاتم عبداللطيف" حكايته: فعلتُ ما طلبه الشاويش "صبحى"، وفى 9 أكتوبر استشهد "صبحى ميخائيل" وإصبعه مرفوعة إلى السماء، ووجهه أبيض يشع منه النورُ.
مشهد (6) (أحد أيام حرب أكتوبر 1973)
مع استيعاب الإسرائيليين لصدمة العبور ووصول الدعم الأمريكى تضاعفت حدة القتال، وخلال ذلك يسقط اللواء "فكرى بباوى"، أحد قادة القوات التى تشتبك مع الإسرائيليين فى كل المواقع، أصيب وسط جنوده بإصابة بالغة نتيجة قصف إسرائيلى مباشر، فصمم زملاؤه ومنهم "زكريا عامر، ومحمد مصيلحى" أن يحملوه رُغم المَخاطر الهائلة لمسافة 3 كيلومترات، واحتموا بساتر حتى وصلوا به بمعجزة حقيقية إلى موقع الإسعاف.
مشهد (7) (مَقر قيادة الجيش الثانى)
يقف وزير الحربية المشير "أحمد إسماعيل" مخاطبًا اللواء "فؤاد عزيز غالى"، أحد قادة الجيش الثانى، يتناقش الرجُلان حول الاستعداد للمعركة، وبينما يهم وزير الحربية بالمغادرة ينظر فى عينَى "غالى" ويقول له عبارة ستصنع قدره لاحقًا:
مكتوب على جبهتك القنطرة، وأتركك الآن حتى تحررها، وسوف تعود إلى قيادة الفرقة 18 مشاة.
دارت عَجلة الاستعداد ليوم الكرامة بلا هوادة أو تهاون، كان "فؤاد عزيز غالى" يحلم بالعودة مُجددًا إلى سيناء التى خدم فيها، ويعرف كل شبر فيها جيدًا، كانت المسئولية كبيرة لكن القائد الصعيدى الذى وُلد بمدينة المنيا لأسرة قبطية تنتمى للطبقة الوسطى، تحمّلها بصلابة مثلما فعل فى كل المهام التى أسندت إليه من قبل.
واصل اللواء "فؤاد عزيز غالى"، الليل بالنهار يُجَهز رجاله للحظة الثأر، وإلى جواره رجال لا يعرفون الراحة أو الاستكانة للهدوء، ومنهم اللواء "ثابت إقلاديوس"، رئيس غرفة عمليات مدفعية الفرقة الثانية.
ومع انطلاق شرارة المعارك سَطّر الجيش الثانى بطولات لا تُنسَى ولعب دورًا بارزًا فى تحقيق الانتصار الكبير، فقد قام بتحرير مدينة القنطرة، ودمّر أقوى حصون خط بارليف، وقام بتأمين منطقة شمال القناة من القنطرة إلى بورسعيد .
مشهد (8) (جنوب رأس العش - 30 مايو 1970)
عناصر الكتيبة 83 صاعقة يستعدون للتحرك لتنفيذ التكليفات الصادرة إليهم من القيادة بعمل كمين مشترك شمال القنطرة جنوب رأس العش، ضد القوات الإسرائيلية فى 30 مايو 1970.
نجح الكمين وأسفَر عن مقتل 35 إسرائيليّا وأسْر 2 حاول أحدهما الهرب، ولكن الجندى "خليفة مترى ميخائيل"، رفض أن يترك الصيد يفلت منه بسهولة، لحق به واستطاع السيطرة عليه بعد عراك وقتال فردى بالأيدى ونقل إلى الضفة الغربية كأسير.
مشهد (9) (على شاطئ قناة السويس)
يقف اللواء "أحمد حمدى"، وسط جنوده محاولًا إعادة تركيب أحد الكبارى على القناة لتسهيل عبور القوات إلى الضفة الشرقية لسيناء، ورُغم أن رُتبته العالية لا تتطلب التواجد الميدانى؛ فإنه عندما حانت لحظة الصّفر يوم 6 أكتوبر 1973 طلب من قيادته التحرك شخصيّا إلى الخطوط الأمامية ليشارك أفرادَه لحظات العمل فى تركيب الكبارى على القناة، فقد كان له الدور الرئيسى فى تطوير تلك الكبارى الروسية الصنع لتلائم ظروف قناة السويس، وطوّر تركيبها ليصبح فى 6 ساعات بدلًا من 74 ساعة.
وفى يوم 14 أكتوبر 1973 كان يشارك وسط جنوده فى إعادة إنشاء كوبرى لضرورة عبور قوات لها أهمية خاصة وضرورية لتطوير وتدعيم المعركة، وأثناء ذلك ظهرت مجموعة من البراطيم متجهة بفعل تيار الماء إلى الجزء الذى تم إنشاؤه من الكوبرى مُعرّضة هذا الجزء إلى الخطر، وبسرعة بديهة وفدائية قفز البطل إلى ناقلة برمائية كانت تقف على الشاطئ قرب الكوبرى وقادها بنفسه وسَحب بها البراطيم بعيدًا عن منطقة العمل، ثم عاد إلى جنوده لتكملة العمل رُغم القصف الجوى المستمر.
وقبل الانتهاء من إنشاء الكوبرى يُصاب البطل بشظية متطايرة وهو بين جنوده، كانت الإصابة الوحيدة والمصاب الوحيد لكنها كانت قاتلة، ويستشهد البطل وسط جنوده كما كان بينهم دائمًا.
من بين الجنود الذين كانوا بالقرب من الشهيد "أحمد حمدى"، الجندى "لطفى لبيب" المولود فى 18 أغسطس 1947 بمدينة الفشن ببنى سويف، كان كغيره من الشباب فى تلك الفترة ينتظر لحظة العبور بفارغ الصبر ليشارك فى محو عار الهزيمة، قضى 6 سنوات ونصف السنة كجندى فى سلاح المشاة ضمن "الكتيبة 26" التى عبرت قناة السويس يوم 6 أكتوبر، وقريبًا من الشهيد "أحمد حمدى" أثناء استشهاده، ودون كل تفاصيل فترة تجنيده فى كتابه "الكتيبة 26"، وهو عبارة عن قصة درامية من واقع حرب أكتوبر، وكل أمنيته أن تتم ترجمة ذلك العمل الأدبى إلى فيلم سينمائى.
ذلك الجندى هو نفسه الفنان "لطفى لبيب"، الذى صاغت سنوات الحرب وجدانه، مثله مثل مئات الآلاف من أبناء ذلك الجيل الذهبى فى تاريخ مصر.
مشهد (10)
(كمين أبو الرفاعى بسيناء)
انتهى الجنود الستة عشر والضابط قائد الكمين من تناول السحور (فول وجبنة وعيش بلدى)، وبَعدها أدّوا صلاة الفجر فى مجموعات صغيرة، قبل أن ينطلق الجنود كلٌّ إلى خدمته.
دقائق وتندفع سيارات مفخخة نحوهم بأقصى سرعة، ينتبه الجندى فوق البرج إليها فيحذر زملاءه، يتعاملون مع تلك السيارات من بُعد، الجندى "أحمد عبدالتواب" قفز فوق مقدمة السيارة المصفحة يحاول أن يدخل ماسورة سلاحه الميرى داخل الفتحة التى يرى منها السائق الانتحارى الطريق، ومن ثم يبدأ فى إطلاق النيران عليه، بينما يتجه الجندى "حسام جمال الدين"، إلى جانب السيارة ليطلق النار عليها، يريدها أن تنفجر على أبعد مسافة عن الكمين، وكلاهما يعلم أنه على موعد مؤكد مع الموت، لكنهما ضَحّيا من أجل الجماعة بعقيدة راسخة لا تهتز، ونجحا فى تفجير السيارة المفخخة على بُعد 75 مترًا من الكمين، ودفعا حياتهما فى صيام رمضان ليعيش زملاؤهما، الذين كانوا هم أيضًا على موعد مع البطولة.
لم يجد المهاجمون سوى تفجير أنفسهم فى الكمين دون أن ينجحوا فى اختراقه، يسقط الجنود الأربعة الذين كانت مهمتهم حماية مقدمة الكمين شهداء، تتناثر أجسادهم من قوة التفجير.
الملازم أول "أدهم الشوباشى"، قائد الكمين، يروى بعض تفاصيل ذلك الهجوم الذى كان يستهدف السيطرة عليه ورفع عَلم "داعش"، ومن ثم السيطرة على منطقة رفح وإعلانها ولاية داعشية قائلًا: الهجوم كان عنيفًا، لكننا فضلنا متمسكين بالكمين رُغم استشهاد وإصابة عدد كبير منّا، وتهدّم معظم أجزائه.. "بس رجّالتى الوُحوش دافعوا عن الكمين بكل بسالة ووطنية ورجولة، لدرجة أن البطل الشهيد الجندى "عبدالرحمن المتولى" أصيب بطلقة فى جانبه لكنه تحمّل وقال لى: "مش هسيبك يا فندم إلا لمّا نخَلص عليهم"، وقتل 12 من التكفيريين قبل أن ينال الشهادة بطلق فى رأسه، وفيه عساكر زحفت على الأرض وأخذت سلاح التكفيريين إللى ماتوا وواصلنا التمسك بالكمين".
جندى مقاتل "يوسف غالى"، يلتقط طرف الحكاية من قائده ليستكمل رواية لحظات البطولة: "فضلنا نقاتل ومبقاش معانا إلا بندقيتين وخزنتين، أخذنا ساتر معرفش التكفيريين يطلعوه، وكل إللى يحاول يقرّب منهم كنا بنضربه، وعندما سمعوا باقتراب الدعم بدأوا يلملموا جثث قتلاهم قبل هروبهم مسرعين من المكان".
جندى مقاتل "نادر ماهر نظمى"، يكمل الرواية: "كلنا كنا إيد واحدة محدّش كان خايف لأن العمر واحد، مفيش مصرى بيخاف، ضباطنا وزمايل لينا استشهدوا وربنا يصبّرنا ويصبّر أهلهم، ومش هنرتاح ولا هما هيرتاحوا فى قبرهم إلا لمّا ناخد بتارهم".
وفى الساعة الآن الواحدة والنصف ظهرًا تحفظت قوة الدعم على جثث 56 إرهابيّا كانوا يظنون أنهم سيكررون ما حققوه فى دول أخرى.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة