كيف صورت الرواية المصرية أعياد الميلاد وليالى رأس السنة
مصر هبة المصريين
د. عزة بدر
ما أرحب هذا الوطن الذى يعيش فينا كما نعيش فيه، مصر وطن المحبة، تتجلى فى أبهى صورها فى الحياة اليومية للمصريين، فى علاقات الود والصداقة والجيرة والإخوّة، والتضامن الاجتماعى.
وفى الأدب نصوص رائعة تصوِّر هذه الروح الحلوة التى تجمع المصريين، فالله مَحبة، وفى التعاملات اليومية "رأس الحكمة مخافة الرب".
ولذا فقد ازدهر الأدب العربى بروايات مصرية أبرزت هذا النسيج المتماسك للمجتمع المصرى، وصوَّرت ابن البلد وهو يستمع خاشعًا لصوت الأذان، وأجراس الكنائس، وينبض قلبه بحلاوة الإيمان.
ومن هذه الروايات المهمة: رواية "شبرا" لنعيم صبرى، و"يا بنات إسكندرية" لإدوارد الخراط، و"خالتى صفية والدير" لبهاء طاهر.
ليالى الأعياد والفرحة
يقول نعيم صبرى فى روايته "شبرا": "فى هذا العالم الرّحب يقع حى «شبرا» بمدينة القاهرة بمصر المحروسة بأقصى الشمال من القارة الإفريقية المترامية والتقاءها مع قارة آسيا، والبحرين الأبيض والأحمر، حى محدود فى مدينة تاريخية عريقة، لكنه يمتلك رحابة متميزة من نوع خاص، رحابة الصدر، هى ذو صدر رحب يتسع للجميع كما سوف نرى يتسع لى ولك، وللآخرين جميعًا، يتحدثون الآن عن الآخر، وقبول الآخر، أى آخر؟، لم يكن الآخر ذا وجود من الأساس لم يكن معنى مدركًا فى الوعى الجمعى«.
وقد كان يحدث كل يوم بتلقائية وسلاسة لا يهم مَن تكون، من أى الأعراق؟، من أى الأديان؟ بأى لغة تتكلم؟ المهم أنك موجود فى حى شبرا.
ويصوِّر نعيم صبرى فى روايته روح المحبة العميقة التى ربطت بين سكان أحد بيوت القاهرة فى حى شبرا، فيصف ما جمعهم من روابط الود، وفى روايته تسمع اللهجة المصرية الشعبية واليونانية والأرمنية والفلسطينية، ويصف ليالى الفرح، وليالى رمضان، وصوم الأقباط، والعيد، وليالى رأس السنة.
هناك حيث تنطلق الأصوات بفرحة الحياة وغبطتها "كالوستو.. كالوستو.. تيكاينز.. كالاً" حيث تنطلق المعزوفة المعتادة كلما استقبلت مدام هيلينا اليونانية أحد ضيوفها من اليونانيين، وتجاوبها أصداء أصوات الحاجة فريدة زوجة المرحوم محمود صدقى سويلم، وابنيها سالم وصالح، وتستمع إليها الست ليزة صاحب العمارة، زوجة المهندس فرنسيس، وفى البيت نفسه تسكن مدام أنوش الأرمنية، وابنها زارية، وابنتها أناهيد، وهناك أبو مازن الفلسطينى.. الكل ينشد أنشودة الحياة والبساطة.
ويصف نعيم صبرى عمق صلاتهم وبهجتهم أثناء الاحتفال بالمناسبات معًا، ومنها ليلة رأس السنة فيقول: "لحظة فاصلة بين يوم ويوم، بين عام وعام، بين ما مضى، وما هو آت، عام دخل إلى خزانة التاريخ، وعام ينزعج من رحم الزمان، لحظة مفعمة بالأمل إذا كنت بين الأحباب، معمورة بالشجن إذا كنت وحيدًا أو غريبًا، لكنها "شبرا" التى لا تسمح للمرء بأن يكون وحيدًا، ولا يوجد بها أحد غريب، تحيط المرء بالآخر من كل جنس ودين، يجد نفسه مستأنسًا بمَن حوله دون أن ينتبه للأمر، فهكذا وجدت الدنيا، وتلك هى الحياة لا يعرف له بديلاً، لا يعانى ما عرفناه فيما بعد بأمراض العصر الحديث، لا يقضى ليلة وحيدًا فى غرفة مغلقة بصحبة جهاز كمبيوتر يفتح الإنترنت ويتجول بين مواقعها، لم تكن الأمسيات إلا تجمعًا وسَمَرًا، حكايا وأنسًا، يلى ذلك تثاؤب هانئ ونوم عميق.
وكما يصف ليلة رأس السنة، يصف طقوس الأسبوع الأخير من الصيام الصغير عند الأقباط فيقول: "ليالى عمل الكعك ليالى أنسى وفرحة، ليالى لمة، تحضر الحاجة فريدة إلى منزل جارتها الست ليزة «بطة»، ثم تنضم إليهما الست عايدة رزق الله لتعمل كعكها أيضًا، والست أسماء أم مازن التى تحب اللمة، وتستمر السهرات حتى مطلع الفجر، وبعد العودة من المخبز تقوم الحاجة فريدة والست أسماء بتذوق الكعك والغُريّبة نيابة عن الست «ليزة»، والست عايدة الصائمتين، وفى صباح اليوم التالى تقوم ليزة بتوزيع الكعك فتعطى لكل شقة نصيبها وتهتم خاصة بنصيب الخالة فاطمة وأسرة عم سيد البواب.
أمّا فى ليالى رمضان فتذهب السيدات جميعًا لشراء ياميش رمضان مع الست عائشة فيتوجهن إلى مَمر الكونتننتال بشارع فؤاد، يركبن الأتوبيس المتجه إلى شارع فؤاد، وينتقين تشكيلة من المكسرات، وتسهم فى ذلك الست ليزة، وعايدة رزق الله، ومدام هيلينا اليونانية.
فإذا ما كانت ليالى السحور قام «ميشيل» بإيقاظ الصائمين للسحور، فهو الذى تعود على سهر المذاكرة فيبدأ أداء مهمته فى إيقاظهم جميعًا، وبعد تناول السحور تحضر له الخالة فاطمة كوب الشاى الساخن يستدفئ به فى انتعاشة السَّحر.
كفاح المصريين
وفى رواية "يا بنات إسكندرية" لإدوار الخراط، يجلو لنا السارد الأسُس الحضارية التى يتمتع بها المجتمع السكندرى منذ أقدم العصور، فيقدم لنا أنشودة عشق للمدينة التى تميزت بتعدد الأعراق، وعناق الأديان، ومحبة الناس فيقول الخراط عنها: عرشت أشواق عشقى فى مدينتى العظمَى الإسكندرية، الثغر المحروس، الميناء الذهبية، الساطعة لا تحتاج بالليل إلى نور لفرط بياض رخامها، أكاديمية أرشميدس، أرض القديس مرقس، والقديس أنانيوس، والأنبا إثناسيوس الرسولى الواقف وحده مع الحق ضد كل العالم، مدينة البطاركة، أعمدة الأرثوذكسية القديم، إكليل السبعين ألف شهيد الذين يبعثون إلى جانب المسيح وجوههم بيضاء كاللبن، والصاروفيم يغنون فى مكرمتهم ويُسبحون.. عروس البحر الدفاق من القلزم إلى بحر الزقاق، جامعة المزارات من سيدى المرسى أبى العباس، وسيدى أبى الدردار إلى سيدى الشاطبى وسيدى جابر، وسيدى كريم رضوان الله عليهم أجمعين، ذات الشوارع الفساح، وعقائد البنيان الصحاح، جليلة المقدار رائعة المغنى، شامخة الكبرياء، إسكندرية، يا إسكندرية، شمس طفولتى الشموس، وعطش صباىّ، ومعاشق الشباب.
ويصف صوت الشيخ رفعت فى رمضان طفولته يترقرق سلسالاً جميلاً من صناديق الراديو الكبيرة ذات العين الواسعة المنيرة فى الدكاكين والقهاوى والبيوت مفتوحة الشبابيك قبل مدفع الإفطار، كما يصف صوت بطريرك أبوى وحنون ومتعب من عبء الرحمة للخاطئين، ومع وجع الإيمان يقبل صرامة العذاب الحق المحيق، وهذا العطف والحزن الربّانى الشفيف فيقول: وهذا كله كان يملأ على شوارع طفولتى وهواجسها وآمالها.
ويأخذنا إدوار الخراط إلى هذه الفترة الزمنية المهمة التى شهدت كفاح المصريين جميعًا لنَيل الاستقلال، ومظاهرات الطلبة فى الإسكندرية مطالبة بالاستقلال عام 1946 فيقول: كانت المظاهرة قد خرجت من الفابريكة فى آخر شارع كرموز، أمّا الطلبة فقد كانوا قادمين من ناحية محرم بك، وكان طابور عسكر بلوك النظام قد اصطفوا فى مفارق الشارعين الكبيرين غير بعيد من الكنيسة الإنجيلية المبنية بالطوب الأحمر، معلقين فى أذرعهم الدروع الخشية الخضراء، وفى أيديهم البنادق القديمة الشكل، الطويلة الفوهات، وكنت قد سهرت طول الليل أتنقل من باب "سدرة" إلى شارع "الهرابسة" إلى "سيدى كريم"، أمر على زملائنا القلائل من عمال الفابريكة فى بيوتهم التى أقاموا فى أحواشها أو حتى فى الشارع أمامها أفرانًا صغيرة وكوانين".. "كانت الشوارع قد أقفزت وخلت فجأة بعد أن كانت الجماعات القليلة العدد قد بدأت منذ الصباح الباكر تطوف بالحى وتنشد: بلادى.. بلادى.. و"أمامًا جنود الفدا، وسيروا إلى النصر تحت العلم".. ثم تقول "سلامًا بلادى، وعاش الوطن" بدلاً من عاش الملك.
ويصف مظاهرات المصريين الذين اجتمعوا على قلب واحد فى أيديهم الأعلام الخضراء بنجومها الثلاثة، يهتفون: الجلاء.. الجلاء، الحكم، حكم الشعب، يسقط الاستعمار، يسقط الاستغلال، يحيا اتحاد الطلبة مع العمال، الجلاء التام أو الموت الزؤام، يسقط صدقى بيفن، العزة لمصر، الله أكبر.
هذا هو تاريخ الكفاح، أصوات المصريين جميعًا وهى تهدر، تحتشد، تهز القلب، لها سُلطة وسَطوة، إنها الحلقة الثورية الإسكندرانية القديمة فى 1946، أيام طبع المنشورات المناهضة للاحتلال، والتى يصفها الخراط فيقول: كنا نطبع على ماكينة "الرونيو" الفرنساوى منشوراتنا التى تدعو إلى الجلاء، وإلى تأميم القناة، وإلى سقوط الاستعباد، والرأسمالية المستغلة والتخلف، وتأييد إضرابات العمال فى فبارك بولفارا والغزل والنسيج فى كرموز.
ويصف تضامن المصريين جميعًا مع ثورة الطلبة والعمال فيقول: كان الناس يلقون إلينا بالسندويتشات، والأكل الجاف الملفوف فى فوط من النوافذ عبر شارع الإسكندرانى، بينما نقوم على حراسة جثمان الشهيد الذى سقط برصاص الإنجليز فى محطة الرمل، حفرنا له قبرًا فى ساحة الجامعة، وسهرنا والشموع الكبيرة مضاءة حواليه، من أين أتينا بها ونحن نتبادل الخطب الثورية، وننشد الأناشيد الوطنية.
وكما اجتمع المصريون على تاريخ نضالى يطالب بالاستقلال، وبنصرة القضية الوطنية اجتمعوا على نداء واحد عميق تتغنى به القلوب "بلادى.. بلادى"، وهو النداء الذى يتردد فى أعماق كل مصرى، ويجعل الوطن يعيش فينا كما نعيش فيه.
جيران الخير
وتأتى رواية "خالتى صفية والدير" لبهاء طاهر لترصد ما يتمتع به مجتمع قرية صعيدية من علاقات الود والجيرة والمحبة، فيصف الكاتب علاقة الناس بالدير فيقول- على لسان بطله الطالب بكلية الآثار: كنا باعتبارنا أقرب البيوت إلى الدير جيرانًا بمعنى الكلمة، كانوا يهدوننا فى المواسم بلحًا مُسكَّرًا صغير النوَى لا تطرحه فى بلدنا سوى النخيلات الموجودة فى مزرعة الدير، واعتاد أبى أن يصحبنى معه فى أحد السعف، وعيد 7 يناير لكى نعيِّد على الرهبان، وفى عيدنا الصغير كانت أمى تكلفنى بأن أحمل من جملة العلب التى تعبئها بالكعك علبة الدير، وعندما أصل إلى بوابة الدير كان يفتح لى المقدس السور المصمت وهو يحيينى متهللاً: أهلاً بالتلميذ النجيب، أهلاً بابن الحاج الطيب، أهلاً بجيران الخير.
ويصف السارد علاقة أهل القرية بالمقدس بشاى فهو أعرفهم بأمور الزراعة والرى، يستشيرونه فى كل صغيرة وكبيرة فى هذه الشئون، وكانت نصائحه فى الزرع لا تخيب.
وتمضى الرواية لتصف من الأحداث المؤثرة فى حياة تلك القرية عادة الثأر التى كادت تعصف بالحياة الهادئة والهانية لأهل القرية- فالخالة صفية تريد أن تأخذ ثأرها من حربى الذى تورط فى قتل زوجها البك بعد مشادة بينهما، تخيل فيها البك أن حربى يريد أن يقتل طفله حسان الوليد حتى لا يرث، ويكون الميراث لحربى الذى كان البك بمثابة خاله، وعزز بعض الوشاة من أهل القرية هذا الشعور لدى البك، فجلد حربى، وربطه إلى جذع شجرة هو ورجاله، ولما انطلق حربى وتحرر من قيوده أطلق النار على الخال "البك" ليقضى عشر سنوات من عمره فى السجن، وعندما خرج احتار أصحاب الكلمة فى القرية ماذا يفعلون، وكيف يحمون "حربى" من القتل، ومن ثأر صفية التى تعد ابنها الصغير ليأخذ بثأر أبيه، بل تؤجر المطاريد ليقتلوا حربى.
وهنا يبدو دور رجال الدين فى القرية، فالشيخ الذى يؤم الناس فى الصلاة، وهو فى الوقت نفسه يعد بمثابة خال صفية التى تربت فى بيته، يلجأ إلى حقن الدماء من خلال الحديث مع الراهب جرجس ليستأذن رئيس الدير، فى أن يعيش "حربى" فى مزرعة الدير فلن يمسسه أحد وهو فى رحمى الدير، وبالفعل ينجو بإقامته فى حرم الدير، بل إن حرص القديس بشاى على حياة "حربى" هو الذى أنقذه من الموت، عندما انتبه لخيانة أحد المطاريد الذين أجرتهم صفية لقتله، فكانت صيحة بشاى "ناحية الجبل" "ابعد يا حنين.. ابعد يا هوذا.. عليك لعنة الرب.
هذه الصرخة التى أنقذت حياة حربى، الذى أطلق رصاصة على حنين وهو يمضى بحصانه بعيدًا، واشترط القمص مكسيموس أن يسلم "حربى" سلاحه، وألا يدخل الدير أى سلاح، وأن يُبنى بيت صغير قرب الجبل فى حمى الدير ليعيش فيه.
هذا الدور المهم فى حقن الدماء، ومحاولة نشر روح السلام فى القرية كانت ثمرة التعاون والتفاهم بين رجال الدين فى القرية للحد من ظاهرة الثأر، ومحاولة نشر روح السلام ليعود صوت المقدس بشاى عميقًا صداه، ناشرًا ثقافة غرس البذور وريها، مارّا وسط الحقول، يستشيره الناس فى أمور زراعاتهم.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة