د. أسامة السعيد
الاستثمار الواعد فى هواية الملوك والأثرياء
لقرون طويلة وحتى نهاية القرن التاسع عشر ظلت تربية الخيول ضرورة لخدمة الأغراض العسكرية للدولة، وارتبطت على الدوام بمفاهيم الفروسية والشجاعة، لكن تطورات العصر ودخول التكنولوجيا والمعدات الحديثة أحالت تربيتها إلى مجرد هواية يقبل عليها الملوك والأمراء والأثرياء، بدلًا من كونها واحدة من أهم أدوات القوة العسكرية، ورُغم ذلك لم تفقد الخيول جاذبيتها، واقترانها بمفاهيم الفروسية والشجاعة، وبالمكانة الاجتماعية والثراء، وحب الجَمال.
إذا كانت تربية الخيول فى المنطقة العربية بشكل عام ومنطقة الخليج على وجه الخصوص تمثل هوسًا حقيقيّا للكثير من الأسَر الحاكمة والشخصيات ذات النفوذ والمكانة؛ فإنها أيضًا تحتل مكانة كبيرة فى مصر التى تمتاز بامتلاكها العديد من السلالات النادرة، بل إن السلالة المصرية تعد واحدة من أكثر السلالات العربية أصالة وجمالًا، ورُغم تلك المكانة وإقبال الكثير من العائلات ذات التاريخ والهواة الكبار على اقتناء الخيول وتأسيس المزارع ذات الشهرة والحضور؛ فإن ذلك لا ينفى أن تربية الخيول فى مصر لاتزال واحدة من أغلى الهوايات، وأكثر الرياضات تكلفة على الإطلاق، ولا يقتصر الأمر على أسعار الخيول نقية السلالة التى تتجاوز الملايين أحيانًا؛ ولكن يمتد إلى التكاليف الباهظة التى تتطلبها الرعاية والعناية على المستوى الغذائى، والصحى، والتدريبى. ورُغم ارتفاع تلك التكلفة؛ فإن الدولة رأت مؤخرًا أن فى تربية الخيول مسارًا استثماريّا واعدًا، ووصل الاهتمام بإعادة إحياء تربية الخيول فى مصر والعناية بمزارعها وتحويلها إلى رافد استثمارى إلى المستوى الرئاسى، وبعد عقود من إهمال استثمارات الخيل، جاءت توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى لإحياء وإعادة تطوير وتأهيل مزرعة الزهراء التابعة لوزارة الزراعة، والخاصة بالخيل العربى المصرى الأصيل، تحت عنوان مشروع "مرابط مصر"؛ لتمثل قبلة الحياة لهذا القطاع الذى بات حكرًا على نخبة من العُشاق والأثرياء، الذين يتكبّدون تكاليف كبيرة من أجل إشباع هوايتهم.
إحياء مكانة مصر
التوجيهات الرئاسية الأخيرة، التى حظيت بترحيب كبير فى أوساط مربى الخيول والمهتمين بتلك الهواية العريقة؛ جاءت لتعيد إحياء مكانة مصر الكبيرة فى مجال تربية الخيول، والتى امتدت لأقدم العصور عندما استعان المصريون القدماء بتربية الخيول والاعتناء بها فى إطار سعيهم لإعادة بناء الجيش المصرى لطرد الغزاة الهكسوس، وكان جلب أزواج من الخيول - التى لم تكن معروفة فى مصر فى ذلك الوقت - من أقدَم العمليات الاستخباراتية فى التاريخ، ومن بعدها نجح المصريون فى استنباط وتربية أنقى السلالات التى كانت واحدة من أسباب القوة العسكرية للدولة والجيوش المصرية عبر التاريخ، وعلى مدى العصور المتوالية.
وفى بداية القرن التاسع عشر استورد محمد على باشا عددًا من أنقى السلالات العربية من شبه الجزيرة العربية، وكان معظم مربى الخيول المصريين من العائلة المالكة، مثل الخديو عباس حلمى الثانى، والأمير أحمد كمال، والأمير محمد على توفيق، والأمير كمال الدين حسين، وغيرهم.
وفى عام 1908 إبان عهد الملك فؤاد الأول تم تكليف قسم تربية الحيوان بالجمعية الزراعية الملكية بالبدء فى تربية خيول عربية أصيلة، وذلك فى مزرعة بهتيم، وفى عام 1928 اشترت الجمعية نحو 60 فدانًا فى كفر فاروق بصحراء عين شمس شرق القاهرة لتهيئة ظروف أشبه ما تكون بالبيئة الطبيعية للخيول العربية .
وفى عام 1970 اشتركت مصر مع مجموعة مكونة من 5 دول هى: المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، فى إنشاء المنظمة العالمية للخيول العربية (WAHO)، وقد وصل عدد أعضائها الآن إلى 68 عضوًا، وتتولى مسئولية تسجيل الخيول العربية فى كل البلاد التى يوجد بها مكاتب تسجيل.
تكلفة الهواية
ورُغم تلك المكانة التاريخية الكبيرة؛ فإن اقتصاديات تربية الخيول فى مصر، مَثلت العائق الأبرز أمام توسع تلك الصناعة وتحوُّلها إلى مورد اقتصادى واعد، واقتصارها على الهواة والعشاق الذين يتحملون عبئًا اقتصاديّا كبيرًا من أجل إشباع هوايتهم، والاعتناء بقطعان الخيول التى يمتلكونها، أو الحفاظ على سمعة المزارع التى تحمل أسماءهم.
ولا يقتصر ارتفاع التكلفة على مسألة "الكَمّ"؛ بل تمتد إلى "الكيف"، بمعنى أنها تزداد عندما يضم قطيع الخيول الذى يقوم المربى على رعايته سلالات عربية نادرة وأصيلة، وهو ما يفرض تكاليف إضافية تتعلق بالرعاية والتسجيل، ومحاولات تطوير القطيع باستمرار واقتناء الأفضل، وتقوية السلالات، وهو ما يضيف الكثير من البنود إلى الفاتورة الإجمالية التى يتحملها المربى.
على سبيل المثال؛ فإن سعر الحصان فى السلالات العالمية لا يقل عادة عن 100 ألف دولار، وبعض ذات النسب العريق والأصل النادر يتجاوز سعر الواحد منها 150 ألف دولار أو يورو، حسب الدولة التى يتم الشراء منها، وتقوم أوروبا باستيراد الخيول العربية من مصر، وتهتم برعايتها وإصلاح عيوبها، ثم تعاود بيعها لنا وللعالم العربى بأسعار مرتفعة جدّا.
رحلة الشغف
النظرة الاقتصادية الأولية لتربية الخيول ربما تؤدى إلى تصور أنها تقتصر على بضعة أفراد، لكن الحقيقة التى تكشفها الأرقام فإن المئات من عشاق تربية الخيول لايزالون محافظين على هوايتهم رُغم تلك التكلفة الكبيرة؛ لأن تكبُّدَ مبالغ طائلة فى رعاية وتطوير السلالات لا يقارن بتلك السعادة التى تمنحها لهم الخيول، وبالتالى؛ فإن الشغف بتلك الهواية يمثل الدافع الأكبر لهم للاستمرار واستكمال الطريق.. لكن هل يمكن أن يتحول ذلك الشغف إلى استثمار يُدر ربحًا سواء للمربين أو للدولة؟
السؤال هنا يبدو منطقيًا؛ خصوصًا مع اتساع نطاق المهتمين بتربية الخيول واتجاه الدولة إلى الاهتمام بذلك القطاع، وتذليل الكثير من العقبات التى تؤدى إلى ارتفاع التكلفة.. وتنطلق البداية الصحيحة للاستثمار من الاهتمام باقتناء خيول من سلالات معروفة، وبمرور الوقت يمكن جَنى عوائد مالية مقبولة من الطلائع التى سيتم إنجابها؛ خصوصًا مع عودة فتح باب تصدير الخيول المصرية إلى أوروبا، وإلى العديد من الدول العربية التى تشهد اهتماما كبيرًا بتربية الخيول؛ خصوصًا منطقة الخليج.
وقد شهد عام 2017 رفع الحظر جزئيًا عن تصدير الخيول المصرية للاتحاد الأوروبى، الذى كان قد بدأ منذ عام 2010، وتم بالفعل فى المرحلة الأولى لاستئناف التصدير بيع 29 حصانًا عربيّا أصيلًا إلى 5 دول من بينها هولندا، وألمانيا، وإيطاليا، إضافة إلى وجود العديد من المساعى والجهود للتوسع فى تصدير الخيول للدول العربية، بعد إيجاد حلول لمعوقات الصناعة فى مصر، وهو ما يمكن أن يمثل مورد دخل لمزارع التربية، وتعويض المربين ولو بجزء من التكاليف.
المشاركة فى المسابقات والمهرجانات الخاصة بالخيول يمكن أن تكون موردًا اقتصاديّا واستثمارًا مربحًا أيضًا للمربين ومزارع الخيول، لكن الأمْر يحتاج أيضًا إلى تذليل الكثير من العقبات؛ لأن المشاركة فى المسابقات الدولية ذات الجوائز المجزية تمثل عبئًا على المربين، وعلى سبيل المثال؛ فإن تكاليف المشاركة فى مهرجان أبوظبى تصل إلى نحو 20 ألف دولار للحصان الواحد، بسبب ارتفاع تكاليف الشحن، والتأمين، وغيرهما من المتطلبات التى يحتاجها وصول الحصان فى حالة صحية جيدة إلى موقع المنافسة.
وفى كثير من الأحيان - وبحسب تأكيدات معظم المربين المصريين- فإن تلك المشاركة لا تبدو دائمًا ذات عائد اقتصادى بقدر ما هى رغبة فى إشباع الهواية؛ لأن من الصعب حصد الجوائز فى المسابقات التى تنظمها دول خليجية مشهورة بمهرجانات الخيول، وفى مقدمتها دولة الإمارات؛ نظرًا لأن الخيول التى تشارك فى مهرجاناتها يتم تحسين سلالتها بدم سلالات أوروبية تعطيها مواصفات أقوى، وتمنحها التفوق على الخيول المصرية التى تتميز بأنها من جذور خالصة، ونجح الأوروبيون فى تحسين السلالات عبر إدخال مواصفات معينة على الخيول العربية، تجعلها أكثر تميزًا وإنتاجًا عن الخيول المصرية العربية الأصيلة، ورُغم ذلك تظل الأخيرة نادرة وغير مهجنة حتى إن لم تفز فى هذه المسابقات، ولا ينفى ذلك أن هناك مربين مصريين يمتلكون خيولًا فى أوروبا ويحصدون جوائز فى مهرجانات عالمية تقام فى فرنسا وأبو ظبى، وهو ما يمكن أن يكون بداية جيدة يمكن البناء عليها والانطلاق منها.
التسويق السياحى
فى المقابل يمكن إعادة الزخم لمهرجانات الخيول المصرية وتسويقها سياحيّا على النطاق الإقليمى والدولى بحيث تزداد قيمتها، وترتفع معدلات المشاركة لتكون جزءًا من الأجندة الدولية الخاصة بمهرجانات ومسابقات الخيول، الأمر الذى يعزز تنافسية الحصان المصرى ويوفر عنصر دعم للمزارع المصرية ويشجع على تطويرها، وكذلك تسويق منتجاتها.
ويصل عدد مهرجانات الخيول فى مصر إلى 10 مهرجانات حاليًا، هى: مهرجان الهيئة الزراعية، ومهرجان جمعية المربين، ومهرجان رباب، ومهرجان المنتجين، ومهرجان الشرقية، ومهرجان البحيرة، ومهرجان الدقهلية، ومهرجان الفيوم، ومهرجان عمر صقر، وأخيرًا مهرجان المنوفية، وتقتصر المشاركة فى معظمها على المهتمين بالتربية ومن يمتلكون سلالات قادرة على المنافسة، دون أن تكون هناك مشاركة كبيرة من المربين العرب أو الأجانب إلا فى حالات محدودة، كما أن قيمة الجوائز التى تقدمها تلك المسابقات والمهرجانات لا تمثل إغراءً ماديّا للمربين، ولا تتجاوز قيمة الجائزة للحصان الفائز فى فئات المسابقات المختلفة بضعة آلاف من الجنيهات، بينما يتحمل المربّى رسوم اشتراك تتجاوزها أحيانًا فى القيمة المالية، وبالتالى؛ فإن الكثير من المربين يعتبرون مشاركتهم فى المسابقات والمهرجانات المحلية نوعًا من الدعم للحفاظ على بقاء تلك المناسبات، وتشجيع المربين على الاستمرار.
وإذا كانت تلك المهرجانات تبدو اليوم مقصورة على المشاركات المحلية؛ فإن دعمَها وتوفير المشاركات الدولية واستضافة لجان تحكيم عالمية وتقديم حوافز مغرية لكبار المربين، سواء فى المنطقة العربية أو فى العالم، يمكن أن يقفز بتصنيف تلك المهرجانات، ويحقق نقلة نوعية كبيرة تجعلها ذات فائدة اقتصادية مهمة للأجانب والعرب، الأمر الذى يؤدى إلى تنشيط حركة السياحة وحركة بيع الخيول، وتوفير فرص عمل وفتح مجالات اقتصادية واعدة وجديدة، مع الأخذ فى الاعتبار أن الخيل من رياضات الأثرياء فى العالم، وبالتالى؛ فإن إنفاقهم السياحى العالى خلال فترة إقامتهم فى مصر يمكن أن يحقق عائدات مجزية، ويوفر ترويجًا مُهمّا للمقاصد السياحية المصرية فى مختلف المحافظات، ويصب فى مصلحة مختلف المرافق السياحية من فنادق ومطاعم ومدن ترفيهية.
نقطة تحوُّل
ويتطلب إحداث ذلك التحول الكبير فى مكانة تربية الخيول المصرية، وتحويلها من مجرد هواية أو شغف شخصى لدى المربين إلى مورد اقتصادى واستثمارى واعد إلى جهد يتجاوز قدرات الأفراد وإمكانياتهم، وهو ما أدركته الدولة وعلى أعلى مستوى، فكان ذلك الاهتمام الرئاسى الذى ترجمته توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى بمتابعة مخطط المشروع العالمى "مرابط مصر" لتربية وإنتاج الخيل العربى المصرى الأصيل، والمتضمن جميع الرياضات والأنشطة المتعلقة بالخيول طبقًا للمعايير الدولية داخل مساحة خضراء ستكون الأكبر فى منطقة الشرق الأوسط، بالشراكة مع أعرق الخبرات الدولية والمحلية، وبالتعاون مع أكبر المطورين العالميين.
وإذا ما أضيف إلى تلك الخطوات الكبيرة خطة تسويقية وسياحية واعدة تعتمد على تعظيم قيمة المهرجانات والمسابقات المصرية فى مجال الخيول؛ فإنه يمكن القول وباطمئنان إن الخيول المصرية ستصل بحق إلى العالمية.>
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة