الفتوحات فى الأرض مكتوبة بدمائها
الخيول.. رفيقة الدرب قرينة الفخر والاعتزاز
د.عزة بدر
للخيول العربية الأصيلة مكانة كبيرة فى الأدب العربى القديم والحديث، وصفها الشعراء وتغنوا بجمالها ورشاقتها وإخلاصها، وصارت رمزًا للفروسية والانتصارات، ونظم على إيقاع حوافرها شعراء الأغنية الحديثة أجمل ما كتب فى شعر الحب، وبهجة الدنيا وزينة الناظرين، ولعلنا نذكر أغنية "الجوز الخيل والعربية.. أنغامهم كلها حنية" التى أذعيت فى افتتاح الإذاعة المصرية لأول مرّة فى ثلاثينيات القرن الماضى.
رفيقة المعارك
الخيل فى الشعر العربى شاهدة على أيام الفتوحات وتحقيق الانتصارات، وسجلت العديد من المُعَلقات الشعرية مكانتها عند الفارس والشاعر العربى، مثل عنترة بن شداد العبسى الذى دعا حبيبته عبلة إلى أن تسأل الخيل عن بطولته وعزته وكرمه، كونها رفيقته فى خوض المعارك وتحقيق انتصارات القبيلة، فيقول:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك.. إن كنت جاهلة بما لم تعلمى
يخبرك من شهد الوقيعة أننى.. أغشى الوغى وأعف عند المغنم
المُعلقات الشعرية
أجمل من وصَف الخيل فى المُعلقات الشعرية كان الشاعر العربى امرؤ القيس الذى وصفه د.طه حسين- عميد الأدب العربى- فى كتابه "الشعر الجاهلى" قائلاً: "امرؤ القيس نبغ فى وصف الفرَس والخيل، والصيد، والسَّيل، والمطر"، ورُغم أن عميد الأدب العربى تشكك فى الكثير من المنسوب لشعراء الجاهلية، ورأى أنها من وضع الرواة؛ فإنه اعترف بأن امرؤ القيس أول من قيَّد الوحوش "الأوابد" فى شعره، وأول من شبَّه الخيل بالعصى والعقبات.
ويخلد امرؤ القيس حصانَه فى مُعلقته قائلاً:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معًا.. كجلمود صَخر حَطه السّيلُ من عل
يزل الغلامُ الخِف عن صهواته.. ويُلوى بأثواب العنيف المثقل
فى هذين البيتين يصف حركة الحصان التى لا تكاد تتوقف حتى يبدو للرائى أنه مُقبل ومُدبر فى الوقت ذاته، متقناً الكَرَّ والفَرَّ، بل ويخلع على حصانه صفات غاية فى الجَمال والدقة، جمع فيها خير الأوصاف، فهو يمتلك خاصرتى ظبىٍّ، وساقَى نعامة، وهو كالذئب يُرخى قوائمه فى غير عنف، ومثل الثعلب يقارب بين يديه ورجليه فى جريه.
ويُعد المتنبى صاحب أشهَر الشعراء فى نظم أبيات الفخر والاعتزاز بالنفس والفروسية فيقول:
الخيل والليل والبيداء تعرفنى.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وتسبب هذا البيت الشعرىّ فى مقتل المتنبى الذى كان على سَفر فتربّص به جماعة من قُطّاع الطُرُق كان قد هجا قريبًا لزعيمهم فقرروا الانتقام منه، وعندما قرر المتنبى الهرب ذكَّره غلامُه بما كتب قائلاً: كيف تهرب وأنت القائل: الخيل والليل؟ فخاض المعركة حتى قُتل، وقيل عن هذا البيت الشعرىّ إنه قَتَل صاحبَه.
داحس والغبراء
واحتدمت أطول معركة أيام العرب فى الجاهلية بسبب خلاف فى سباق للخيل، وهى معركة "داحس والغبراء" التى استمرت أربعين عامًا، وكانت "داحس" فرساً مملوكة لقيس بن زهير، زعيم بنى عبس، فيما كانت "الغبراء" فرسًا ملكًا لحذيفة من قبيلة ذبيان، وكان قيس وحذيفة قد اتفقا على سباق بين الفرسَيْن فى تحدٍّ على من يقوم بحراسة قوافل النعمان بن المنذر، وأوعز أحد المنتمين لقبيلة ذبيان لعدد من أتباعه بأن يردوا "داحس" إذا وجدوها متفوقة على "الغبراء" وهو ما حدث ذلك بالفعل واشتعلت المعركة بعد اكتشاف الأمر بين "عبس" و"ذبيان" لمدة أربعين عامًا، ولم تنطفئ إلا عندما تدخّل الحارس بن عوف، وهرم بن سنان بدفع دية للقتلى من مالهما الخاص، ووصفهما زهير بن أبى سلمى بنعم السيدَيْن فى قصيدة طويلة، ومن مآسى هذه الحرب الطويلة أنه مات فيها عنترة بن شداد.
الزمن الذهبى
وفى العصر الحديث كتب الشاعر أمل دنقل فى الثمانينيات من القرن الماضى أجمل القصائد التى كتبت عن الخيل فى ديوانه "أوراق الغرفة رقم 8" الصادرعام 1983 تحت بعنوان "الخيول":
الفتوحات فى الأرض مكتوبة بدماء الخيول وحدود الممالك
رسمتها السنابك
والركابان: ميزان عدل يميل مع السيف
حيث يميل
ويصوِّر الشاعر الزمن الذهبىّ للخيول عندما كانت فى البرية، تعدو بغير لجام فيقول:
كانت الخيل فى البدء- كالناس
برية تتراكض عبر السهول
كانت الخيل كالناس فى البدء
تمتلك الشمس والعُشب
والملكوت الظليل
ظهرها لم يوطأ لكى يركب القادة الفاتحون
ولم يلن الجسد تحت سياط المُروض
والفم لم يمتثل للجام
كتب الأنساب
من أهم الكتب العربية التى اهتمت بتتبع أنساب الخيول كتاب "أسماء خيل العرب وفرسانها" لابن الأعرابى، وهو كتاب قديم من التراث حققه أحمد زكى باشا وطُبع عام 1946، وفيه رصد ابن الأعرابى أنساب 162 حصانًا من فحول خيول العرب فى الجاهلية، ورتبها حسب التاريخ، كما أن للأصمعى كتابًا بعنوان "الخيل".
وللكاتب اليمنى على بن داود الرسولى كتاب "الأقوال الكافية والفصول الشافية فى الخيل".
وهناك كتاب لابن القيم الجوزية بعنوان "الفروسية" وفيه ذكر للخيل، وكتب الجاحظ فى كتابه "الحيوان" عن طباع الخيل قائلاً: إن الفرَس من طبعه الزهو فى المشى وهو يعرف سائسه، ويعجبه راكبه، وهو أيضًا غيور، ولا يأكل بقية علف غيره.
ومن أحدث الكتب التى تتحدث عن الخيل كتاب "الخيل معقود فى نواصيها الخير" للكاتب السعودى سند بن مطلق السبيعى، الذى ذكر الكثير عن أنساب الخيل وأحوالها، وعن تاريخ رياضة الفروسية قائلاً: إن تاريخ رياضة الفروسية يرجع إلى نحو عام 2000 قبل الميلاد، وقد تأسَّست فى القرن السادس الميلادى أول أكاديمية للفروسية، وذلك فى مدينة نابولى بإيطاليا، وعام 1912 أصبحت سباقات الخيول ضمن برامج الألعاب الأوليمبية.
أمّا قفز الحواجز فهو من أمتع رياضات ركوب الخيل التى تنظمها قوانين الاتحاد الدولى للفروسية، وظهرت لأول مرة عام 1912م، فى حين يُعد سباق الخيل من أقدم الرياضات فى التاريخ ولقبت بلعبة الملوك.
الأدب الشعبى
وتقوم الفروسية الشعبية على أساس تدريب الخيل على الأدب، وهو الرقص على أنغام المزمار البلدى المصرى، وهو عبارة أداء حركى يتراوح بين تدريب الحصان على السلام بالأيدى، أو الجلوس جلسة السَّبع، أو الصعود فوق طبلية من الخشب، كما يقول السيد حسن العمرى، خبير تدريب الخيول، ويذكر أن الحنان هو أفضل طريقة للتعامل مع الحصان.
أحب العرب صفات الخيل فكانت لها نصيب فى حكمتهم وأمثالهم، ويقال: "أطوع من فرَس" للدلالة على وفاء الخيل لأصحابها، و"أشد من فرَس" دليل على القوة والبأس، و"أبصر من فرس" للدلالة على قوة البصر، و"أجرى من فرس" أى أسرع فى الجرى.
ويتم تشبيه الإنسان بالفرَس فى أصالته، ومما أورده أحمد تيمور باشا فى كتابه "الأمثال العامية" المَثل القائل "الفرَس الأصيلة ما يعيبها جلالها"، أى إن المرء بنفسه، لا بثيابه التى لا يعيبه فقرها.>
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة