السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بدأت بـ«التمصير».. ثم «التمويل» كواليس تأميم قناة السويس

بدأت بـ«التمصير».. ثم «التمويل» كواليس تأميم قناة السويس

باحتلال بريطانيا لمصر (سبتمبر 1882م) أصبحت شركة قناة السويس فى يد السياسة البريطانية. وفى هذا الإطار سعت بريطانيا إلى مَد أجل امتياز الشركة بعد نهاية الامتياز فى 1968م حتى تظل محتفظة بتوظيفها سياسيّا، وعلى هذا تقدمت الشركة بمشروع للحكومة المصرية فى عام 1909م بمَد الامتياز بعد عام 1968م لمُدة أربعين سنة، تنتهى فى 31 ديسمبر 2008م. وقامت الحكومة المصرية بإرسال المشروع إلى الجمعية العمومية (البرلمان آنذاك) لمناقشته.



 

حصل "محمد فريد"- رئيس الحزب الوطنى- على نسخة من المشروع، فكتب فى صحيفة "اللواء" فى 25 أكتوبر 1909م يقول: "كيف يجوز لهذه الحكومة أن تتساهل فى أمْر إطالة أمَد الشركة مع علمها أن القناة كانت السببَ فى ضياع استقلال مصر!..". وعندما عرض الموضوع فى 7 أبريل 1910م للمناقشة على الجمعية العمومية، رفضته بالإجماع. وخرجت مظاهرة تندّد بالمشروع وتطالب بالجلاء.

غير أن تمركُز الجيش البريطانى فى منطقة القنال بمقتضى معاهدة 1936م أدى إلى الربط العضوى بين المطالبة بجلاء الإنجليز وتحرير قناة السويس. وعندما تقرّر فى عام 1937م إلغاء الامتيازات الأجنبية فى مصر بعد مرحلة انتقالية لمُدة اثنى عشر عامًا (1949م)، وهى الامتيازات التى جعلت الأجانبَ يتملكون فى مصر ويسيطرون على مقدرات البلاد، نشط فرسان الحركة الوطنية على اختلاف فصائلهم؛ حيث طالب الحزبُ الشيوعى المصرى، ولجنة العمال للتحرير القومى بتأميم القناة (أكتوبر 1945م)، وطالب اتحادُ خريجى الجامعة (فبراير 1946م) بحصول مصر على الأسهم البريطانية فى الشركة التى كان الخديو "توفيق" قد باعها لها. 

وفى هذا السياق، وافق مجلس الشيوخ (1947م) على إصدار "قانون التمصير"، الذى قضى بإضافة صفة "شركة مساهمة مصرية" لاسم الشركة الأجنبية، وفرض على الشركات الأجنبية تمصير إدارتها وتشغيل نسبة من المصريين لا تقل عن 51% من قوة العاملين، وأن تكون مراسلات الشركة باللغة العربية. والحال كذلك أصبح اسم شركة قناة السويس "الشركة العالمية لقناة السويس البحرية- شركة مساهمة مصرية". كما تقرَّر حصول مصر على 10% من إيرادات عبور القناة. 

وإزاء تعنّت الشركة وعدم استجابتها لطلب الحكومة المصرية أصدرت الحكومة قانونَيْن فى 1947م، أولهما إخضاع الشركات العاملة فى مصر لقوانين الرقابة على النقد الأجنبى، وحدّد الثانى الحد الأدنى من المصريين الواجب توظيفهم فى تلك الشركات، فاضطرت الشركة لطلب التفاوض مع الحكومة المصرية، وبدأت المفاوضات فى يناير 1949م، وتم توقيع اتفاق جديد فى 7 مارس 1949م أصبح لمصر بمقتضاه نسبة ثابتة قدرها 7% من إجمالى الأرباح، وبحيث لا تقل عن 350 ألف جنيه سنويّا، كما وافقت الشركة على إضافة خمسة مصريين إلى مجلس الإدارة بالتدريج حتى سنة 1964م، وعلى زيادة عدد الموظفين المصريين فى الوظائف الفنية والإدارية ووظيفة إرشاد السفن المارّة بالقناة بنسب متفاوتة، وعلى حق مصر فى التفتيش على الشركة للتأكد من استيفاء الشروط.

كان ذلك هو الوضع العام للعلاقات بين الحكومة المصرية وشركة القناة حينما نشر الدكتور "مصطفى الحفناوى" فى فبراير 1952م الجزء الأول من كتابه "قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة".

بناء السد

ثم قامت ثورة 23 يوليو 1952م بقيادة "جمال عبدالناصر"، وحافظت حكومة الثورة على قانون التمصير، وفى أغسطس 1952 قابل "الحفناوى" "جمال عبدالناصر" وشرح له ضرورة إنهاء امتياز الشركة. ورَدّ "ناصر" قائلًا: "أحسن حاجة نركّز دلوقت على إخراج الإنجليز من القاعدة العسكرية، وأعدك بعد خروجهم نؤمّم القناة".. والمعنى أنه لا يمكن الإقدام على الدخول فى مجابهة مع الشركة فى وجود القوات البريطانية فى منطقة القنال.

والحال كذلك أصبحت قضية استعادة قناة السويس إحدى القضايا المطروحة على جدول أولويات الضباط الأحرار. ففى فبراير 1953م نشر مجلس قيادة الثورة "مذكرة استراتيجية" تلخص فكْر "عبدالناصر" ورفاقه، تقول "إن مصر على أتم استعداد للدفاع عن القناة، كما أنها لا تفكر فى شراء الجلاء بالانضمام إلى ميثاق أو معاهدة عسكرية تجعلها حليفة للغرب"، وهى إشارة لمشروع قيادة الشرق الأوسط الذى طرح عام 1951م ورفضه "مصطفى النحاس باشا"، وأعيد طرحه فى مايو 1953م على "عبدالناصر" وبمعرفة "جون فوستر دالاس" وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية باسم "منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط" (حلف بغداد فيما بعد فى فبراير 1955م).

وفى يوليو 1954م تم توقيع اتفاقية جلاء إنجلترا عن مصر، بعد مفاوضات طالت من أبريل 1953م، وتم التصديق عليها فى أكتوبر 1954م، على أن يتم انسحاب القوات البريطانية فى غضون ثمانية عشر شهرًا. وبعد التصديق على المعاهدة وفى 17 نوفمبر 1954م وفى مناسبة مرور 85 عامًا على افتتاح القناة للملاحة قال "عبدالناصر" فى خطاب عام: "إن القناة أدت إلى احتلال مصر وإهدار حقوقها"، وربط بين استكمال استقلال مصر واستعادة القناة. وطلب من "إدارة التعبئة العامة" وهى إدارة أنشأها حديثا، أن تُعد دراسة عن تاريخ قناة السويس وعملها وإدارتها والعاملين فيها. كما أنشأ "مكتب قناة السويس" يتبع مجلس الوزراء مهمته إعداد دراسات عن القناة، وأصدر تعليماته إلى إدارة التعبئة العامة للقوات المسلحة للاهتمام بشئون القناة، وإلى المخابرات المصرية للحصول على معلومات تثبت تدخّل الشركة فى شئون مصر مستغلة الأموال التى تحصل عليها. وفى عام 1955م انتهت الدراسة التى أعدتها "إدارة التعبئة العامة" بتكليف من "عبدالناصر" ونشرتها الإدارة تحت عنوان "هذه القناة لنا" فى مجلة "الهدف" وهى مجلة شهرية تصدرها الإدارة.

وفى تلك الأثناء كان "جمال عبدالناصر" مشغولًا بمسألتيْن غاية فى الأهمية، وهما: بناء السد العالى، وتسليح الجيش المصرى. وعلى هذا وفى مايو 1953م قدّمت مصرُ طلبًا للبنك الدولى للإنشاء والتعمير لتمويل بناء السد العالى بقرض قدره 600 مليون دولار. وفى أبريل 1955م حضر "ناصر" مؤتمر باندونج (فى إندونيسيا) لتأسيس مجموعة "الحياد الإيجابى"، وهناك تحدَّث مع رئيس وزراء الصين الشيوعية "شو ان لاي" فى شأن إمداد مصر بصفقة سلاح سوفيتية؛ لأن إنجلترا ترفض مَدّ مصر بالأسلحة بدعوَى مطالبتها بالجلاء، وقد تم ترتيب الصفقة عن طريق تشيكوسلوفاكيا لاعتبارات الحرب الباردة، وبدأت الأسلحة الجديدة ترد إلى مصر ابتداءً من أكتوبر 1955م. بعثة مالية

ومع ورود الأسلحة تباعًا أخذت أمور تمويل بناء السد العالى تتعقد تدريجيّا، إذ أعلن البنك الدولى فى اليوم التالى لموافقته (أى فى 17 ديسمبر 1955م) شروطه لتمويل المشروع، وهى شروط مُهينة تتلخص فى: أن تتعهد مصرُ بعدم إبرام أى اتفاقات مالية أو الحصول على أى قروض دون موافقة البنك، وأحقية البنك فى مراجعة ميزانية مصر، واستبعاد الكتلة الشرقية من المشروع.. وكان الاتحادُ السوفيتى قد أعلن استعداده لتحمُّل تكاليف البناء مقابل توريد سلع مصرية على مدى 25 سنة.

وكان من الطبيعى والحال كذلك أن يرفض "جمال عبدالناصر" تلك الشروط المُهينة، ولم يوقف صفقة الأسلحة، ولمّا كان يعلم أن ظروف الحرب الباردة قد تجعل الاتحاد السوفيتى يمتنع عن توريد السلاح لمصر مرّة أخرى، فقد بادر بالاعتراف بالصين الشيوعية فى 16 مايو 1956م، لكى يضمن منها السلاح إذا ما توقّف الدعم السوفيتى 19 يونيو 1956م وبَعد شهر من اعتراف "ناصر" بالصين الشيوعية جاء "يوجين بلاك"- رئيس البنك الدولى- إلى مصر وأجرى محادثات لإقناع مصر بقبول شروط البنك الدولى للتمويل. وفى خلال محادثاته ألمح بطرف خفى إلى احتمال أن يسحب البنك موافقته على التمويل، إذا لم تسرع مصرُ بالموافقة على الشروط قبل أول يوليو 1956م.

ولم يأبه "عبدالناصر" لهذا التهديد غير المباشر، لكنه أصبح على يقين من أن الغربَ لن يتركه يمضى فى مشروع بناء السد العالى، إلا إذا قبل شروطهم السياسية ودخل بيت الطاعة الدولى. وأمام رفضه الدخول فى الأحلاف الغربية بل والهجوم على حلف بغداد، وارتباطه بالحياد الإيجابى ثم الاعتراف بالصين الشعبية، حاولت الإدارة الأمريكية احتواءه بطريقة أخرى، إذ طلب البنك الدولى أن تقبل مصرُ وجودَ بعثة مالية يكون لها حق مراجعة الموقف المالى لمصر، فاعترض "عبدالناصر" بطبيعة الحال. 

وظل "عبدالناصر" معترضًا على قبول البعثة المالية رُغْمَ محاولات "أحمد حسين"، سفير مصر لدى الولايات المتحدة لإقناعه وأخيرًا قال له "عبدالناصر: "سوف ترى أن البنك لا يريد أن يموّل المشروع بسبب مواقفى فى السياسة الدولية، وأنه يضع شرطا مُعَجّزًا يعلم أننا سوف نرفضه، ومن ثم نكون نحن السبب". وفى صباح يوم 19 يوليو (1956م) وكان "ناصر" فى بريونى- (فى يوغوسلافيا)- فى اجتماع مجموعة الحياد الإيجابى مع كل من "نهرو" و"تيتو"، واتصل بـ"أحمد حسين" تليفونيّا وطلب منه إبلاغ الخارجية الأمريكية بموافقته على شروط البنك. وخرج من الاجتماع وتحدّث أمام مؤتمر صحفى عن تصفية الاستعمار، والتعايش السلمى بين الشعوب، وأهمية المساعدات غير المشروطة. وعلى الفور أعلنت الحكومة الأمريكية سَحب تأييدها لتمويل السد العالى.

وبعد أسبوع من سَحب تمويل مشروع السد العالى أعلن "عبدالناصر" فى 26 يوليو 1956م قرار تأميم قناة السويس؛ لكى يتمكن من تمويل بناء السد العالى من دخل الملاحة العالمية بالقناة. 

وفى صباح يوم 27 يوليو، صرّحت الحكومة الأمريكية بأن تأميم القناة "ستكون له آثار بعيدة المدى على اقتصاديات بلاد كثيرة، وأنها تتشاور مع الحكومات المَعنية". وفى 31 يوليو قررت الحكومة الأمريكية تجميد أرصدة مصر بالبنوك الأمريكية، وكذا أرصدة الشركة، وكذلك فعلت الحكومتان الفرنسية والإنجليزية. واقترحت حكومة لندن وباريس عقد مؤتمر فى 16 أغسطس 1956م فى لندن يحضره المنتفعون من قناة السويس لتدبير أمورهم، وكذا مصر. ولكن فى يوم 8 أغسطس قرر "جمال عبدالناصر" عدم حضور المؤتمر. 

وفى المؤتمر طرح "جون فوستر دالاس" حلّا للأزمة يقضى بوضع القناة تحت إدارة دولية تشترك فيها مصر، وأن تفتح القنال لجميع الدول. وقرّر المؤتمر تشكيل لجنة برئاسة "روبرت منزيس"- رئيس حكومة أستراليا- وعضوية كل من الحبشة وإيران والسويد وأمريكا، مهمتها عرض الاقتراح الأمريكى وشرح أهدافه للحكومة المصرية.

وفى 3 سبتمبر استقبل "ناصر" "منزيس" الذى قدّم له الاقتراح قائلًا أن يقبله كما هو أو يرفضَه دون مناقشة أو مفاوضة. وردّ "ناصر" بأن فصل القناة عن السياسة المصرية غير ممكن لأن القناة فى أرض مصر ولا يمكن فصلها عن سياسة الدولة التى تملكها إلا إذا فصلناها عن سيادة هذه الدولة. وقال "منزيس" معقبًا: "إن القوات البريطانية والفرنسية تتحرك ليس بغرض التهويش ولكنها تتحرك من أجل تسوية الأمر مع مصر. وهنا طوى "عبدالناصر" أوراقه ونهض واقفًا، وأعلن عدم استعداده فى الاستمرار فى المناقشة تحت التهديد.

ووقَع العدوان فى 29 أكتوبر 1956 وصمدت مصر وانسحبت القوات "البريطانية- الفرنسية" فى 23 ديسمبر (عيدالنصر)، وبقيت القناة لمصر وارتفعت هامَة مصر عالية بين الأمم بفضل دفاع ابنها "جمال عبدالناصر" عن عِزّة بلاده وكرامتها.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق