من التشكيك إلى الانبهار بالمعجزة

د. أسامة السعيد
كانت قناة السويس القديمة والجديدة حاضرة بقوة فى أدبيات السياسة وتحليلات الاقتصاد، وفرضت نفسَها بقوة أيضًا على تناوُل الإعلام العالمى، الذى جاء فى كثير من الأحيان انعكاسًا للمصالح السياسية للدول التى تصدر فيها أو تبث منها وسائل الإعلام العالمية، وهى فى مجملها غربية الانتماء والهوَى.
بدأ الاهتمام العالمى بالقناة وما يحيط بها من أحداث وقرارات، منذ خرج إلى النور مشروع رجل الأعمال الفرنسى المغامر فرديناند ديليسبس لشق قناة تربط بين البحرين الأبيض والأحمر لتغيير مسار حركة التجارة بين الشرق والغرب.
المساعى الحثيثة التى بذلها ديليسبس ذلك المغامر مستفيدًا من خبراته الدبلوماسية وعلاقاته مع البلاط العثمانى والعديد من الشخصيات النافذة والمؤثرة على قرار الحكومة المصرية، ساعدت على انتزاع موافقة الخديو سعيد على انطلاق المشروع.
فى تلك الفترة من أواسط القرن التاسع عشر كانت الصحف المطبوعة هى صاحبة اليد العليا فى المشهد الإعلامى العالمى، وكانت الصحف الإنجليزية هى الأقوى والأكثر تأثيرًا؛ استنادًا إلى الهيمنة العالمية التى كانت تحظى بها بريطانيا أكبر الدول الاستعمارية فى تلك الفترة والإمبراطورية التى كانت لا تغرب عنها الشمس.
وكان هناك أيضًا حضور أقل كثيرًا للصحف الفرنسية، لكن النفوذ البريطانى الواسع وانتشار اللغة الإنجليزية فى المستعمرات الغربية فى العالم منح الصحافة البريطانية نفوذا هائلا تجاوز حدود القارة العجوز، لكنه أيضًا جعل تلك الصحف ترتبط بشكل كبير بمسارات المصالح البريطانية التى لم تكن تراعى مصالح الشعوب المحتلة، بقدر ما كانت تستهدف مصالح التاج البريطانى.

النفاق الإنجليزى
ورُغم عدم توافر الكثير من المصادر الصحفية التى تعكس تناوُل الإعلام العالمى لقناة السويس، وصورة مصر فى معالجات صحف ذلك الزمان؛ فإن عددًا من المراجع القيّمة التى تناولت تاريخ قناة السويس تضمنت إشارات مهمة بشأن كيفية التناول الإعلامى لقضية القناة، ومن تلك المراجع المهمة كتاب ”قصة قناة السويس“ للدكتور مصطفى الحفناوى،. وهناك أيضًا كتاب ”السخرة فى حفر قناة السويس“ للدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى.
ويتفق المرجعان على أن القضية الأبرز التى فتحت شهية الإعلام الإنجليزى لتناول موضوع القناة كانت قضية السخرة، ويشير المؤرخون إلى أن ذلك الموقف من جانب الصحف الإنجليزية اتسم بنفاق فاضح، فكثير من المشروعات التى كانت تخدم المصالح الإنجليزية فى مصر كانت الحكومة المصرية تستخدم فى تنفيذها أسلوب السخرة دون أن ترفع الصحف الإنجليزية راية الاعتراض، لكن احتجاج تلك الصحف فى السخرة لحفر القناة كان جزءًا من حملة ممنهجة قادتها بريطانيا للهجوم على المشروع والاستئثار الفرنسى (جنسية ديليسبس) بثمار المشروع. والغريب أن تلك النبرة الهجومية على المشروع والسخرة تغيرت تمامًا عندما حصلت بريطانيا على نصيبها من أسهم الشركة العالمية لقناة السويس، وهو ما يكشف بوضوح حجم النفاق الإنجليزى، والذى يبدو أنه لم ينته مع القرن التاسع عشر بل ظل صفة لصيقة حتى فى القرن الحادى والعشرين- كما سنعرف لاحقًا.
بلطجية ديليسبس
فى المقابل ترصد المراجع أيضًا حالة من النفاق لكن على الجانب الآخر، ونعنى به الجانب الفرنسى، فالصحف الفرنسية التى طالما رفعت شعارات الثورة الفرنسية (الحرية - الإخاء - المساواة)، وطالما ادعت أنها صاحبة إعلان حقوق الإنسان، اتخذت موقفًا مخزيًا إزاء جرائم ديليسبس بحق المصريين، واستقدامه العديد من عتاة المجرمين الأوروبيين وما يمكن تشبيههم بـ«البلطجية» وإدخالهم إلى مصر مستفيدًا من قانون الامتيازات الأجنبية؛ ليقوم هؤلاء المجرمون والبلطجية باختطاف المصريين من القرى وإجبارهم على العمل بالسخرة فى حفر القناة. والأغرب أن تلك الصحف الفرنسية التى رفعت شعارات ”الإنسانية“ وقفت موقفًا رافضًا لإعلان الحكومة المصرية فى عهد الخديو إسماعيل بإلغاء السخرة، وتدخل الإمبراطور الفرنسى آنذاك تدخلا فاجرًا - على حد وصف الدكتور مصطفى الحفناوى- لإعادة هذا اللون من العبودية.
وبطبيعة الحال حظى حفل افتتاح قناة السويس باهتمام إعلامى عالمى ضخم، يتناسب مع ضخامة الاحتفال الذى حضره كبار زعماء وقادة العالم، وتقدر بعض المراجع التاريخية عدد من استضافتهم الحكومة المصرية لحضور الافتتاح بأكثر من سبعة آلاف أوروبى، تكفلت الحكومة بمصروفات سفرهم ذهابًا وإيابًا وإقامتهم والهدايا التى تقدم إليهم، ويكفى أن الإمبراطورة أوجينى زوجة الإمبراطور الفرنسى شاركت فى حفل افتتاح القناة، يتبعها أكثر من 50 سفينة أبحرت فى مياه القناة الجديدة وسط احتفالات صاخبة لم يشهد التاريخ لها مثالا فى كل مدن القناة.
ثورة 30 يونيو
وإذا ما قفزنا على درب التاريخ 150 عامًا لنصل إلى عصرنا الراهن؛ فإن الصورة ربما تتشابه فى بعض مكوناتها، خصوصًا فى الدور الذى لعبه الإعلام العالمى وموقفه من مصر، وهو الموقف الذى يعكس فى كثير من الأحيان خريطة مصالح القوى العالمية الكبرى، ولا يعكس فى كثير من الأحيان حقيقة الأوضاع.
ولعل خيرَ شاهد على تلك الحقيقة صورة مصر التى كثف الإعلام العالمى تقديمها فى أعقاب ثورة 30 يونيو 2013م، والتى أطاحت بحُكم الإخوان، وخلصت مصر من مشروع التمكين الإخوانى الذى كانت ترعاه وتسانده الكثير من القوى الغربية، ومن ثم انعكس هذا الموقف المتعاطف مع التنظيم الإرهابى على التغطية الإعلامية الخاصة بمشروع قناة السويس الجديدة؛ حيث شككت كثير من الصحف الغربية فى جدوى المشروع، فذكرت صحيفة "الفايننشيال تايمز" البريطانية أن الوتيرة التى ينمو بها الاقتصاد العالمى، هى التى ستحدد نجاح هذا المشروع من عدمه، مبدية شكوكًا كثيرة حوله. وأضافت الصحيفة فى تقرير لها نشرته فى الرابع من سبتمبر 2014 "إن هذا المشروع، الذى يعول عليه نظام الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى كثيرًا، يأتى فى وقت يعانى فيه الاقتصاد المصرى بشدة".
فكما شككت صحيفة الجارديان البريطانية فى إمكانية تنفيذ المشروع، ونقلت الصحيفة تصريحات أنجوس بلير، رئيس معهد "سيجنت" للسياسة والاقتصاد، والمقيم بالقاهرة بأن "سنةً واحدةً" لتنفيذ مشروع قناة السويس الجديد غير مؤكد بأى شكل، وأيضًا من غير الواضح مدى تأثير التوسعات على سرعة العمليات فى القناة".
وكان موقع "المونيتور " الأمريكى قد شكك أيضًا فى جدوى إنشاء قناة السويس الجديدة، وأكد أن هذا المشروع "مغامرة كبيرة" لنظام السيسى، وقد ينتهى بالفشل.. وعلى ذات الدرب شككت صحف التليجراف وديلى ميل وكذلك مجلة لوبوان الفرنسية.

تحقيق المعجزة
وإذا كان الوقت الذى حدده الرئيس السيسى لتنفيذ المشروع بعام واحد فقط كان محل تشكيك الكثير من وسائل الإعلام العالمية، إلا أن نجاح مصر فى تحقيق تلك المعجزة كان سببًا فى تراجُع الكثير من الوسائل الإعلامية عن مواقفها السابقة، ومدعاة للإشادة بالتغيير الذى تشهده مصر، فقد تراجعت صحيفة "فايننشيال تايمز" عن التشكيك فى مشروع القناة فى تقريرٍ آخر؛ حيث ذكرت أن مشروع تنمية قناة السويس يمثل محورًا لبرنامج تشغيل واسع تم تصميمه لاستعادة الاقتصاد المتداعى فى البلاد وحشد الدعم السياسى.
وأشارت الصحيفة إلى أن الممر المائى يمثل رمزًا وطنيّا عزيزًا للمصريين، فلقد بنى بسواعد آلاف العمال، وتم افتتاحها عام 1869 م وتأميمها فى 1956م من قبل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذى هزم القوى الاستعمارية السابقة فرنسا وبريطانيا، جنبًا إلى جنب مع إسرائيل؛ حيث تحوّل ناصر الذى يقوم العديدون بتشبيه السيسى به، إلى بطل عربى.
كما ركزت الكثير من وسائل الإعلام العالمية على مشهد افتتاح قناة السويس الجديدة وما يعكسه من تغير للمواقف الدولية بشأن مصر، وقالت وكالة أنباء "رويترز"، إن مصر حرصت على إظهار الدعم الدولى لها خلال احتفالاتها بافتتاح قناة السويس الجديدة، التى تأمل الحكومة فى أن تسهم فى إنعاش اقتصاد البلاد.
وتابعت: "مشروع قناة السويس الجديدة قد اكتمل فى عام واحد بدلا من ثلاثة، كما كان مقررًا له، بناءً على تعليمات الرئيس عبدالفتاح السيسى“.
وأوضحت الوكالة أن مشروع القناة الجديدة هو محور برنامج كبير لـ"السيسي" يهدف إلى تعزيز حكمه كرجُل يسعى لتحقيق الاستقرار والرخاء لمصر، كما أن الافتتاح المبهر يهدف إلى تعزيز موقفه على الصعيد الدولى فى حضور الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند ورئيس الوزراء الروسى ديمترى ميدفيديف والملك عبدالله عاهل الأردن وأمير الكويت وملك البحرين.
أمّا صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، فقالت إن مصر افتتحت المعجزة الخاصة بها فى حفر قناة السويس الجديدة. وأشارت الصحيفة فى تقرير لها إلى أن طائرات رافال و"إف 16" كانت ضمن احتفال مصر بافتتاح القناة الذى جرى فى جو رائع لكشف النقاب عن مشروع رائد، أنجز فى عام.
وأبرزت الصحيفة افتتاح الرئيس السيسى القناة فى موكب بحرى على نفس اليخت المحروسة الذى ركبه الخديو إسماعيل عندما افتتح هذا الشريان الاستراتيجى للتجارة البحرية الدولية للمرة الأولى فى عام 1869م؛ حيث ارتدى زيه العسكرى. مشيرة إلى أن قناة السويس هى نبض مصر.
هدية مصر للعالم
فيما قالت صحيفة "لوموند" الفرنسية، إن شعار قناة السويس هدية مصر للعالم يتكرر فى انسجام تام من قبل جميع وسائل الإعلام فى البلاد، ليشكل ملحمة مليئة بالأحداث، حيث تختلط روح مغامرة رجل الأعمال الفرنسى فرديناند ديليسبس، وطمع القوى الاستعمارية فى القناة مع الفخر القومى المصرى، وأوضحت الصحيفة أن هذا المشروع سيجعل من المنطقة قطبًا تجاريّا مُهمّا يجذب العديد من الشركات الأجنبية. وذكرت صحيفة "التيلجراف" البريطانية أن هذا المشروع علاوة على أنه يساعد على تحسين البنية الأساسية للصناعة المصرية، فهو أيضًا يجلب مزيدًا من التنمية إلى سيناء التى تعانى من الإرهاب؛ حيث إن تكلفة المشروع تتضمن إنشاء أنفاق تحت القناة لربط سيناء بباقى مصر، وهو ما يصب فى مصلحة تنمية سيناء.. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا المشروع يعد علامة بالغة الرمزية لطموحات النظام المصرى الجديد. وقالت إن النظام الجديد عاقد العزم على تقديم نفسه للمصريين على أنه يبنى مصر جديدة، وأن ما يفعله يفوق طموحات الحكومات السابقة.
ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن الجيش المصرى يقود حركة التنمية والازدهار فى البلاد.
وذهبت وكالة الأنباء الفرنسية "فرانس برس" إلى أن مشروع تنمية قناة السويس سيرفع مكانة مصر الدولية، ويضعها فى مصاف الدول التى يوجد بها مراكز تجارية رئيسية فى العالم. وأضافت: " الرئيس السيسى يستعيد ذكريات وأمجاد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذى أمّم قناة السويس عام 1956، وأفشل مخططات الغزو البريطانى للبلاد".
وقالت شبكة "يورو نيوز" الإخبارية، إن مشروع قناة السويس، رفع مكانة مصر دوليّا وتحويلها إلى مركز رئيسى للتجارة فى العالم، وأضافت أن الحكومة المصرية تسعى إلى توسيع ممرات خطوط عبور السفن التجارية، على طول الطريق الأسرع للشحن بين أوروبا وآسيا وقناة السويس.
وهكذا تغير موقف الصحافة الغربية من مصر كثيرًا، عقب نجاح مصر فى إتمام مشروعها الأيقونى ”قناة السويس الجديدة“،كما يُلاحظ أن الصحافة الغربية قد بدأت عقب افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة فى تعديل رؤيتها للنظام المصرى الجديد والرئيس عبدالفتاح السيسى؛ حيث شبّهه عديد من تلك الصحف بالزعيم الوطنى جمال عبدالناصر، كما ربطت بعض الصحف بين الرئيس السيسى والملك الفرعونى سونسرت الثالث الذى بدأت فى عهده أولى محاولات ربط البحر بالنهر.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة