الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

هكذا أقنع ديليسبس الوالى سعيد بحفر القناة

حفل افتتاح قناة السويس عام 1869
حفل افتتاح قناة السويس عام 1869

منذ 45 عاما أخذ الكاتب محمد عودة يفتش في صفحات التاريخ ليكشف عن جوانب وخفايا لا يعرفها الكثيرون حول الدور الخطير الذي لعبه  فرديناند ديليسبس لإقناع الوالي سعيد والإمبراطور الفرنسي وزوجته "أوجيني" حول أهمية حفر قناة السويس



وسنعرض فى السطور التالية أبرز الحوارات بين الشخصيات الفاعلة وقتها: كما رصدها عودة في مقاله بـ«مجلة روزاليوسف» فى عدد 9 يونيو 1975م بمناسبة إعادة افتتاح القناة للملاحة بعد نصر أكتوبر.

 

كان ماثيو ديليسبس قنصلًا عامًّا لفرنسا فى أوائل القرن الـ19، فى عصر نابليون، وكان أحد رجال تاليران.. ووزير الخارجية ذا الشهرة التاريخية، ويعتمد عليه فى المهام الدقيقة.. الكثيرة فى ذلك الحين.

 

محمد سعيد باشا
محمد سعيد باشا

 

وكان القنصل العام الأوروبى فى الشرق فى القرن الماضى هو شخصية العصر.. وهو الذى يزرع المصالح والذى يحميها، وهو الذى يشترى الساسة ويقصد الحكام، والذى يقدم الهدايا ويبذل الوعود.. ثم هو الذى يفتعل الأزمات أو المؤامرات، وبعد كل شىء الغزو إذا لزم الأمر.

 

فرديناند ديليسبس
فرديناند ديليسبس

 

ورث فرديناند ديليسبس، الابن الرابع لماثيو، مهنة أبيه وأهم صفاته.. ونفس المنصب. وعُّين نائب قنصل فى مصر فى عصر عباس الأول.. لكى يقوم بنفس المهمة ويواصلها بعد نهاية عصر محمد على.. ولكنه واجه الفشل منذ البداية.. وطرده عباس الأول الذى لم يكن يطيق الأجانب والقناصل.. وحينما اغتيل الوالى وتولى سعيد باشا.. وبلغت الأنباء فرديناند.. هرع إلى مصر؛ لينقذ وظيفته هذه المرّة.. ولكن بمهمة أكبر.

كان يَعرف "سعيد" جيدًا، وتربطه به روابط وثيقة منذ كان يتردد على القنصلية الفرنسية كثيرًا.. وبعد ما أوكل محمد على إلى قنصل فرنسا أن يُعلم حفيده الفرنسية ورياضة الخيل وقد تولى "سعيد" فى منتصف القرن سنة 1854م، وكان يفيض بالأمانى الطيبة.. وكان مشهورًا عنه أنه لا يميل إلى الأتراك ويحب مصر والمصريين.

 

لحظة إزالة تمثال ديليسبس بعد عدوان 56
لحظة إزالة تمثال ديليسبس بعد عدوان 56

 

ومنذ سنة 1838م حصلت بريطانيا العظمى بمقتضى معاهدة مع الدولة العثمانية على «الباب المفتوح»، وحق التجار البريطانيين فى الإبحار فى كل أرجاء الإمبراطورية وموانيها بلا قيود.. وحينها وفد  ديليسبس لهذا إلى مصر، وجد نفسه وعصره مختلفًا تمامًا.. وأنسب الأوقات للمشروع الطموح الذى يريد أن يحققه والذى لا بُدّ أن يتم.

ولم يكن هناك أفضل من مشروع كانت بريطانيا منذ عام 1841م تفكر فيه وأعدت كل الخطط والدراسات حوله، ولا بُد أن تسبق به فرنسا.. وهو "قناة السويس" إذا ما حققته فرنسا لتحكمت به فى كل تجارة واقتصاد الشرق والغرب.. وصرفت أزماتها، ولم يكن هناك أفضل من ديليسبس ليقوم بالمهمة.

 

أوجينى وزوجها الإمبراطور فى حفل افتتاح القناة للفنان محمود سعيد
أوجينى وزوجها الإمبراطور فى حفل افتتاح القناة للفنان محمود سعيد

 

ديليسبس لم يكن فقط صديقًا حميمًا من أصدقاء الصبا بالنسبة لـ"سعيد"، ولكنه أيضًا كان على صلة قرابة بالإمبراطورة "أوجينى" إمبراطورة فرنسا وزوجة الإمبراطور نابليون الثالث.

مهرّج فرنسى

ولم يستغرق ديليسبس جهدًا كثيرًا لإقناع "سعيد" بالمشروع، وقد سحب معه مُهرجًا فرنسيّا هو - المسيو بارفاى - كان الوحيد الذى يستطيع إضحاك "سعيد" حتى يقهقه.

 

ملوك ورؤساء وساسة فى الحفل أيضا
ملوك ورؤساء وساسة فى الحفل أيضا

 

قال ديليسبس للأمير:

ليس هناك عمل يمكن أن يقارَن فى عظمته ومنافعه مثل هذا.. أى سجل مَجيد يا مولاى يمكن أن يتركه حُكمُك وأى مصدر للخير والنعيم الذى لا ينفد يمكن أن يحققه مشروع آخر، إن أسماء الملوك العظام الذين بنوا الأهرام لاتزال غير معروفة.. ولكن اسم الأمير الذى يشق القناة سيبقى ويُخلد قرنًا بعد قرن من الزمان.. حتى آخر الدنيا. وأن الحج إلى مكة المكرمة سوف يكون مأمونًا ومريحًا لكل المسلمين.. وكل البلاد الواقعة على البحر الأحمر والخليج الفارسى حتى شرق إفريقيا، والهند حتى مملكة سيام، والهند الصينية واليابان والإمبراطورية الصينية العظيمة وجزر الفلبين وأستراليا.

وكل الخليج الذى تتجه إليه هجرة أوروبا ستقترب ثلاثة آلاف ميل من مملكتك ومن غرب أوروبا.. وهذه ليست كل نتائج حفر القناة.

واقتنع "سعيد" أن القناة سوف تكون - بوسفورًا جديدًا، أعظم من بوسفور السُّلطان، وقتها سوف تضمن استقلال مصر؛ لأن كل الدول الكبرى سوف تؤمن حيدة القناة لتستعملها بلا استثناء.

 

الخديو إسماعيل
الخديو إسماعيل

 

ولم يكن صعبًا أن يحصل ديليسبس بعد ذلك على رغبة الإمبراطورة: "سوف تكونين يا مولاتى المَلاك الحارس للمشروع، وسوف تكونين لوصل البحر الأبيض والأحمر تمامًا كما كانت الملكة الكاثوليكية العظيمة «إيزابيلا» بالنسبة لاكتشاف أمريكا.

وقد اخترتُ يا مولاتى يوم 15 نوفمبر، وهو عيد القديسة أوجينى؛ ليكون موعد أول اجتماع للجمعية العمومية للشركة"، وبعد أن باركت الإمبراطورة.. المشروع لم يعد سوى الإمبراطور، وقد سأله:

- لماذا يعارض كثيرون هذا المشروع يا مسيو ديليسبس؟

- لا لشىء يا مولاى سوى أنهم يتصوّرون أنك لا تقف وراءه.

- منذ اليوم نستطيع أن تعتمد علىّ فيما تحتاجه... وقامت الشركة العالمية للقناة البحرية فى السويس.

وفى نوفمبر سنة 1858م طرحت الأسهم للاكتتاب العام، كان عدد الأسهم 100.000 وثمَن السهم 500 فرنك، واشترت فرنسا 52٪ من الأسهم. وكان "سعيد" قد اتفق على أن يكون نصيب مصر 30.000 سهم.

ولم يقع فى الاكتتاب العام سوى 12.000 سهم أخرى، ولم يجد ديليسبس مَخرجًا من الفشل وخيبة الأمل سوى أن يقيد كل الأسهم الباقية ويغير استشارة صاحب الحق لحساب مصر.. كانت 176000 سهم ثمنها 88 مليون فرنك.. أعلن اكتتاب مصر بها دون أن يأخذ رأيها.. وأعلن ديليسبس بهذا تغطية الاكتتاب.

وعاد ديليسبس إلى القاهرة.. وذهب إلى "سعيد" بابتسامته المبهورة.. وقدّم إليه باعتباره وكيل أعماله فى أوروبا كشف حساب الشركة.. وكان على ورقة صغيرة عادية. فلم يكن من "سعيد" الذى كان يعانى دائمًا من الضجر والمَلل إلا أن سلم الورقة إلى سكرتيره دون أن يطلع عليها.

خازوق الوالى

وبعد مُضى الوقت عاد ديليسبس مبتسمًا كالعادة وطلب من "سعيد" أن يصدر الأمر بدفع القسط الأول من ثمَن الأسهم البالغ عددها 176000 بمبلغ 88 مليون فرنك.

وقال سعيد:

- أى اكتتاب؟

- دفعة اكتتاب فى الأسهم.

- اكتتابى أنا؟

- نعم يا مولاى، أنت تعلم أنى أكتتب باسمك ولحسابك.. ولو لم أفعل لفشل المشروع الذى سيخلد اسمك فى التاريخ ويكفل الاستقلال والعظمة لمصر.. ولقد أخبرت سموّك وكتبت لكم:

قلت: وكتبت أين؟ ومتى؟

- فى الورقة التى قدّمتها لكم.

وأمر سعيد بإحضار الورقة المذكورة.. وكان حساب الاكتئاب فى أوروبا موضّحًا على وجهها، وعلى ظهر الورقة كتب ديليسبس 88 مليون فرنك اكتتاب صاحب السمو.

وقال سعيد:

- ولكنك تعرف عن الأزمة المالية مستحكمة وليس هناك أموال.

- لا تخف يا مولاى، سأعمل بكل الوسائل على تفريجها.

وبعد أن انتهى "سعيد" من رواية القصة للقنصل الفرنسى أطرَق وقال له:

- أرأيت أى خازوق أعطانيه رجُلكم ديليسبس.. لقد أعطانى خازوق حياتى!!

وتحوّل ديليسبس إلى محاولة استيفاء أمواله عن طريق آخر.

أخذ ديليسبس يُزَيّن لـ"سعيد" اتخاذ الإجراء الفعال الذى يحل المشاكل.. وهو عَقد قرض من أوروبا يسدد به المستحق دفعة واحدة.. وكان ديليسبس هو الذى أغرى "سعيد" بأن يقدم على العمل الأول من نوعه، والخطأ الذى بدأ به الخراب العام ونهاية الاستقلال، وهو عَقد القرض الأول فى تاريخ مصر.

وكان قرضًا بمبلغ 2.400.000 جنيه تسدد على ثلاثين سنة، وحينما ينتهى السداد تكون مصر قد دفعت بالفعل أكثر من ثلاثة أمثال القرض.. كان فاتحة إيقاع مصر فى أنياب المالية الدولية

 

أوجينى
أوجينى

 

تحدى إسماعيل

توفى "سعيد" وتولى "إسماعيل" حُكم مصر.. وكان قويّا طموحًا «ميكافيليّا».. مختلفًا عن "سعيد"، ولكنه كان  يحفل بالنوايا الطيبة، التى يزخر بها الطريق إلى جهنم.

واشتدت المنافسة بين بريطانيا وفرنسا على استغلال مصر ووضع اليد عليها.. وكانت كل منهما تجد فى خطة الأخرى نحو مصر مبررًا لسياستها.. وكانت الدولتان تجدان فى إسراف "إسماعيل" مبررًا لسياستهما معًا ويُحَمّلانه تبعات أعمالهما فى مصر.

استدان "إسماعيل" 90 مليون جنيه.. ولكن وصل إلى خزائنه فعلًا 32 مليون جنيه.. وذهب الباقى فى السمسرة والعمولات، ولهذا سُميت الديون المصرية، أكبر صفقات نصب فى القرن التاسع عشر.

وعُرفت مصر فى ذلك الحين بأنها أكبر سوق فى العالم للتعويضات، وقتها 17 دولة داخل الدولة.. «بعدد القناصل»، وكان رعايا الدول من تجار ومقاولين وغيرهم يخلقون الفرص لإبعاد نزاع مع الحكومة على طريقة ديليسبس ويحتالون فى تأويل العقود والاتفاقات لمطالبة الحكومة بتعويضات طائلة.

وبهذا انتصرت «المالية الدولية» على مصر.. وفرضت هيمنتها عليها.. وكان هذا يعنى أن يحقق ديليسبس وهو أهم روادها كل ما يشاء.

وبلغت تكاليف قناة السويس فى النهاية 433 مليون فرنك، أى ضعف رأس المال، وقد تحملت مصر من هذه التكاليف 335 مليون فرنك، حصلت عليها الشركة بكل أساليب الابتزاز والتهديد والاحتيال غير المشروعة.

وبعد المشروع، وفى أول اجتماع لمجلس الإدارة اتخذ المجلس قرارًا بأن مصر التى كانت تملك 176 ألف سهم ليس لها حق الاشتراك فى الجمعية العمومية للشركة، وبعد قليل ما لبثت هذه الأسهم نفسها أن ضاعت من مصر، وفى صفقة من أبخس الصفقات. فحينما اشتدت الضائقة المالية وتأزمت الأمور، وهدد الدائنون الأجانب بإشهار إفلاس مصر، عرض "إسماعيل" الذى كان قد وصل إلى الدرك الأدنى أسهم مصر فى القناة للبيع.

وسارع دزرائيلى، رئيس وزراء بريطانيا اليهودى، إلى شرائها بأربعمائة مليون جنيه استرلينى، وتجاوز البرلمان البريطانى، إذ كان فى عطلة آخر الأسبوع، وحصل على المال من الروتشيلد المالى اليهودى، وحققت الإمبريالية البريطانية أهم خطوة فى سبيل التسلل إلى مصر.

وبعد شراء أسهم قناة السويس باتت بريطانيا تمد سُلطتها على مصر.. وفى 24 يوليو 1882م نزلت القوات البريطانية إلى الإسكندرية واحتلت المدينة بالفعل.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق