السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

"خليج أمير المؤمنين" قناة فى شوارع القاهرة.. وأسباب دفاعية منعت هارون الرشيد من حفر قناة السويس

هنا تحت هذا الشارع كانت تجرى قناة أمير المؤمنين بحى السيدة زينب شارع بورسعيد حاليا
هنا تحت هذا الشارع كانت تجرى قناة أمير المؤمنين بحى السيدة زينب شارع بورسعيد حاليا

قد يبدو مثيرا معرفة أن منطقة "فم الخليج" الشهيرة بالقاهرة كانت بالفعل "خليج" تجرى به المياه حاملة للسفن، حفره الصحابى عمرو بن العاص بأمر من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب.



بدأت إرهاصاتُ "الفكرة المُبكرة" بهدف الربط بين "البحر الأحمر" (أو "بحر القلزم" بحسب المصادر الإسلامية)، و"البحر المتوسط" (البحر الرومي) ، وقد كانت الغايةُ أن يرتبط كلاهما بالآخر بشكلٍ غير مباشر، ربما بسبب الخوف من ربط البحرَيْن مباشرة، والخشية من ارتفاع منسوب أحدهما على الآخر، كما أن ذلك لم يكن أمرًا هيّنًا وقتئذ. وكانت الفكرةُ الأولى لهذا الربط عبر قناةٍ تخرجُ من "نهر النيل"، ومنه كانت تجرى المياه حتى "البحر الأحمر"، أو بالعكس، ومن ثم كانت تصل السفنُ والمراكب التجارية القادمة من شتى موانئ "البحر الأحمر"، وكذلك المحيط الهندى عبر أحد فروع النيل إلى "البحر المتوسط" .

 

محمد صادق وإبراهيم رفعت أبرز القادة المصريين للحج
محمد صادق وإبراهيم رفعت أبرز القادة المصريين للحج

 

حفر خليج أمير المُؤمنين

فى العصر الإسلامى وقع القحط الشديد فى بلاد الحجاز عام 18 هـ، فلما زادت الشدةُ بالمسلمين فى "المدينة المُنورة" مقر الخلافة آنذاك، وفى غيرها من بلاد الحجاز بسبب القحط، أرسل "عُمر بن الخطاب" رسالةً عاجلة لوالى مصر عمرو بن العاص، قال: "سلامٌ عليك، أما بعدُ، فلعَمرى يا عمرو ما تُبالى إذا شبعتَ أنتَ ومن معك، أن أهلَكَ أنا ومن معى، فياغوثاه!، ثم ياغوثاه!..".، وهو قولٌ يؤكد عظم المُصاب، وقسوته على الناس. ثم بادر "عمرو" بالرد دون إبطاءٍ منه على رسالة أمير المؤمنين التى يبدو فيها الكثير من السخط، والغضب، فقال: "لعبدالله عمر أمير المؤمنين، من عبدالله عمرو بن العاص، أما بعدُ، فيا لبيك! ثم يا لبيك! قد بعثتُ إليك بعيرٍ أولُها عندك، وآخرها عندى". وكان الخليفة يريد أن يرسل الوالى المؤن والطعام عبر البحر. لكن الوالى "عمرو بن العاص" اعتذر للخليفة عن عدم إرسال الطعام عن طريق البحر، وقال فى نفسه: "أفتحُ على مصر بابًا لايُسَد، فكتب يعتذر". وأدرك الخليفةُ ما حدث بين "عمرو" ومستشاريه، فاشتد فى الكتابة لواليه، وبعث إليه مُهددًا: "أما بعدُ.. والله لئن لم تُرسل فى البحر؛ لأُرسلَّن إليك من يقتلعُ أُذنيك..". 

ولما انتهى أمر هذه الشدة بإرسال المؤن والطعام الوفير، أرسل الخليفة رسالةً يأمر فيها والى مصر أن يحفر "خليجًا"، أو "قناة" لتربط مصر بأرض الحجاز ليأتيه الخير والمؤن من مصر: "يا عمرو، إن الله قد فتح على المسلمين مصر، وهى كثيرة الخير والطعام، وقد أُلقى فى رَوعى لما أحببتُ من الرفقِ بأهل الحرمَيْن، والتوسعة عليهم، أن أحفر خليجًا من نيلها حتى يسيل فى البحر، فهو أيسرُ لما نُريد من حمل الطعام إلى المدينة، ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد، ولا نبلغ معه ما نُريد، فانطلق أنت وأصحابُك، فتشاوروا فى ذلك". 

ولما تشاور الوالى مع المُقربين، أثقلوا عليه حفر "الخليج" الذى ربما يُلحق الضرر بمصر، ثم أخبروه أن يُرسل للخليفة مُعظمًا ذلك الأمر عليه. عندها اشتد الخليفة على الوالى، وأمره أن يحفر "الخليج" مَهما كان الأمر، ومَهما كانت التكاليف، حتى قال له: "ولو أنفقتَ عليه جميع مال مصر". وعلى هذا، أدرك الوالى أن لا حيلة له أمام رغبة الخليفة.

ثم جمع عمرو بن العاص العُمال لحفر "الخليج المصرى"، ويُقال إن العمل دام ستة أشهُر. وتذكر المصادر أن الوالى لم يكن يدرى من أين يبدأ الحفر، وأن الذى أرشده لموضع "القناة القديمة" قبطى من أهل مصر. وقد تكلف حفر الخليج أموالًا باهظة لإتمام هذا المشروع، وعن ذلك يقول، ابن زولاق: "وأنفق (الوالى) عليه (أي: الخليج) مالًا عظيمًا". ولما تم حفر الخليج، سارت المراكب من مصر إلى الحجاز، وذات يوم خرج الخليفة عمر فى طريقه، وقال للناس: "سيروا بنا ننظرُ إلى السُّفن التى سيّرها الله إلينا من أرض فرعون حتى أتتنا"، فذهب وشاهد الخير القادم من أرض مصر.

ويقال إن طول هذا الخليج كان يبلغ نحو 140كم، وذلك منذ بداية مجراها عند "نهر النيل" وحتى "البحر الأحمر". وكان "الخليج" يقع بحذاء شارع بنى الأزرق فى "الفسطاط"، فى منطقة "جنينة لاظ" فى الجهة الغربية من مسجد "السيدة زينب" رضى الله عنها. وكان يجرى فى امتداده حتى بلدة "أم دنين" (قرب الأزبكية حاليًا)، ثم يمتد قليلًا بعد ذلك نحو الشرق، ثم ينعطف نحو الشمال حتى أطراف المدينة، ثم يمر مجراه فى الأراضى حتى "العباسة" بشرق الدلتا، ثم يسير مجرى الخليج شرقًا إلى الأراضى التى يشغل موضعها إقليم الإسماعيلية بعد ذلك، ثم كان "الخليج" يتجه بعد ذلك حتى القلزم (السويس).

 

خريطة تبين مسار خليج أمير المؤمنين الرابط بين البحر الأحمر ونهر النيل
خريطة تبين مسار خليج أمير المؤمنين الرابط بين البحر الأحمر ونهر النيل

 

إغلاق الخليج

تُعد فترةُ "أبى جعفر المنصور" (136-152هـ) من أبرز الفترات التى ارتبطت بـ"الخليج المصرى"، وقد بَدتْ ثمةُ رغبةٌ من جانب بعض الخُلفاء العباسيين غايتُها تَرمى لإغلاق "الخليج المصرى" رُغم أهميته، وكونه شُريانًا بحريّا حيويّا لمصر، ودوره فى رواج تجارتهم الخارجية، لاسيما أنه صار منفذًا تجاريّا رئيسًا بين كل من مصر، وموانئ بلاد الحجاز، وكذلك سُفن التُجار القادمين من الأسواق الآسيوية، لاسيما تجارة البهارات القادمة من بلاد الهند، وهى المعروفة بـ"التجارة الكارمية"، وكان يقبل عليها الأوروبيون. وكان مبعثُ ذلك القلق من جانب الخلفاء العباسيين خشيتهم أن يستغل المُعارضون لهم "الخليج المصرى" لمزيد من إضعاف الدولة، ومن ثم يكون بإمكانهم الاستيلاء على أراضى مصر، مع ما تمثله أراضيها من أهمية للدولة العباسية، بل إن خوف بعضهم امتد من أن يُشكل وجود "الخليج" تهديدًا لبلاد الحرمَيْن ذاتها. وعلى هذا ففى أيام "أبوجعفر المنصور" تم ردم "الخليج المصرى".

وتذكر المصادرُ التاريخية أن "هارون الرشيد" (170-193هـ/787-808م)، وهو حفيد "أبى جعفر المنصور"، كانت لديه رغبةٌ واضحة فى الربط بين كل من "البحر الأحمر" و"البحر المتوسط" بشكلٍ مباشر، وليس عبر مجرد "قناة" تخرج من "نهر النيل" فحسب، وهو بلا ريب تطورٌ مهم جدّا فى فكرة الربط بين هذين البحريْن، إذْ إنها تكاد تكون أول مرّة يتم الحديث عن هذا الأمر خلال القرون الهجرية الأولى. غير أن وزيره أظهر له ما قد ينتج عن ذلك الربط المباشر بين البحرين من مخاطر، وتهديدات ليست تُهدد أرض مصر وحدها، بل ستمتد توابعها بعد ذلك لبلاد الحجاز، وباقى ولايات الدولة العباسية.

ويُروى أن الوزير "يحيى البرمكى" قال لـ"هارون الرشيد" إن حفر قناةٍ تربط بين البحر الأحمر (القلزم) والبحر المتوسط (البحر الرومى) سوف يهوّن أمر قدوم الجيوش الرومية المعادية لهم إلى أرض الحرمين، وسيكون بإمكانهم أن يستولوا دون مشقةٍ على قبلة المسلمين، عندئذ ترك "هارون الرشيد" هذه الفكرة تمامًا، وأعرض عنها. ومن الراجح أن "الخليج المصرى" كان قد أُعيد حفره مرة أُخرى، وكان يُستخدم فى الملاحة التجارية أيام "هارون الرشيد"، ويبدو أنه اكتفى بإعادة حفر الخليج بدلًا من الربط البحرى المباشر بين البحرين (الأحمر والمتوسط). 

ومن المعلوم أن حُكام مصر، وولاتُها اهتموا فيما بعد بأمر هذا "الخليج" مرّة أُخرى، لاسيما أيام "الدولة الطولونية" منتصف القرن 3هـ/9م؛ نظرًا للحاجة الماسة لوجود هذا الخليج. ويتحدث "ابن زولاق" عن استخدام الحُجاج المصريين، وغيرهم من الحُجاج ممن كانوا يأتون من شمال إفريقيا، وبلاد المغرب، وكذلك الحجاج القادمين من مناطق غرب إفريقيا لمرافقة الحجيج المصريين عبر هذا الخليج فى أيامه؛ وبمرور الوقت حمل هذا الخليج، أو "قناة أمير المؤمنين" العديد من التسميات الأخرى بجانب الارتباط باسم "أمير المؤمنين"، فى أيام "الدولة الفاطمية" عُرف بـ"الخليج الحاكمى"، نسبة للحاكم بأمر الله، وكذلك "خليج اللؤلؤة" نسبة للقصر الفاطمى المعروف، كما عرف فى فترات أخرى باسم: "خليج القاهرة"، وكذا اشتهر بتسمية "فُم الخليج". 

ويبدو أن أهمية هذا "الخليج" قلت أيام دولة المماليك (648-923هـ)، وكانت قوافل الحج المصرى، التى تعرف بـ"موكب الحج"، وإرسال كسوة الكعبة من مصر إلى بلاد الحرمين، والذى كان يشرف عليه حكام وسلاطين مصر، وكان يقوده "أمير الحاج" المصرى، فكانوا يستخدمون طريق "قوص- عيذاب" الصحراوى، من النيل حتى البحر الأحمر، وهذا يعنى أن "خليج أمير المؤمنين" لم تكن له أهمية كبيرة فى ذلك الوقت. وخلاصة القول؛ فإن هذا "الخليج" بقى مُستخدمًا مدةً طويلة عبر مراحل التاريخ المصرى كشريان بحرى مهم، رُغم تعاقب الدول والأسرات الحاكمة عبر تاريخ مصر الإسلامى، كما كان يُهمَل فى بعض الفترات الأخرى. غير أنه خلال القرون المتأخرة قلت مساحة هذا الخليج، وكذلك أهميته، ومن ثم صار كأنه تُرعة مائية تخترق أحياء القاهرة القديمة، ثم أُهمل "الخليج" بشكل كبير خلال القرن 13هـ/19م، ولاسيما بعد حفر "قناة السويس"، ومن ثم صدر قرار بردم ما تبقى منه أيام الخديو "عباس حلمى الثانى" سنة 1897م، وقد عُرف المكانُ الذى كان يجرى به بعدئذ باسم "شارع بورسعيد"، وهو أحد أهم شوارع القاهرة حاليًا.  

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق