الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«سيزوستريس» أول شريان يربط مصر بالعالم

«سيزوستريس» أول شريان يربط مصر بالعالم

كان المصرى القديم كأى صانع حضارة يبحث عن الاتصال والتواصُل مع الآخرين منطلقًا وباحثا ومستكشفًا لكل ما هو خارج عالمه المحيط به. ومن ثم هداه عقله الحضارى والإنسانى إلى البحث عن "الآخر" الموجود خارج الدائرة الملاصقة له.



المفارقة التاريخية والمدهشة تمثلت فى أن المَمَرّات المائية كانت هى خط الاتصال الحضارى بين المصرى القديم والآخر.. فنهر النيل به عرف المصرى شركاءه-ذوى الثقافات المتباينة حول هذا المجرى العظيم.

 

كان البحر المتوسط - كذلك - هو النافذة على عالم لم يكتشف بعد.. والبحر الأحمر كان أداة للتمازُج والتفاعل مع ثقافات قريبة- بمعنى ما- من الحضارة الفرعونية كما أثبتت بعض الدراسات التاريخية الحديثة ذلك.

مثل نهرُ النيل من جانب، وكلّ من البحرَيْن المتوسط والأحمر من جانب آخر، أهم مصادر الاتصال لمصر عبر عصورها، لذا كان ملوك مصر القديمة يَعتبرون أن حماية طرُق التجارة الملاحية من بين أولويات حُكمهم، والسبيل لإرضاء الأرباب. 

كان المصرى منذ الدولة القديمة الفرعونية يحرص على التجارة النهرية والبحرية، ومن أهم الأمثلة على ذلك تمثيل الملك ساحورع-  ثانى فراعنة الأسرة الخامسة وحَكم فى القرن 25 قبل الميلاد- وهو يقوم برحلة بحرية إلى "بلاد بونت"، ويُعد هذا المنظر أقدم الإشارات التاريخية المعروفة لدينا حول وجود علاقات تجارية مع هذه البلاد ذات الثراء، وهى البلاد التى تقع على السواحل الجنوبية للبحر الأحمر.

فى الدولة الوسطى اهتم الملوك أيضًا بمَصادر المياه من خلال إقامة السدود واستصلاح الأراضى للزراعة، وفتح موانئ للتجارة، ومثال ذلك نراه بوضوح فى "سد اللاهون" بالفيوم، الذى كان مُعدّا لاستصلاح سبعة وعشرين ألف فدان للزراعة، ولتسهيل أعمال التجارة.

لكن يبقى المثال الأكثر شهرة لنشوء فكرة القنوات فى مصر القديمة كان من خلال القناة المعروفة باسم "قناة سيزوستريس"، وهى التى تربط بين النيل والبحر الأحمر، أى أنها ليست قناة السويس التى تربط البحرين المتوسط والأحمر.

والغريب أن من أطلق التسمية كان الفلاسفة والكُتّاب اليونانيون، أمثال أرسطو وبلينيوس الأكبر، إضافة إلى الرحالة الجغرافى سترابون الذى زار مصر فى القرن الأول قبل الميلاد ووصف الكثير من معالمها ومنشآتها.

سيزوستريس

لكن من هو سيزوستريس؟ هل هو سنوسرت الأول أمْ حفيده سوسرت الثالث من ملوك الدولة الوسطى، أمْ أنه رمسيس الثانى من ملوك الأسرة التاسعة عشرة الفرعونية؟

كل هذه الأسماء لا يوجد دليل يربطها بحفر القناة، وإن كنت أرى أن الاسم هنا مجازى أكثر من كونه اسمًا فعليّا، كما أن الشواهد الأثرية تؤكد عدم وجود القناة فى هذه المرحلة، فقد أرسلت حاتشبسوت حملة إلى بلاد بونت ونزلت المنتجات فى ميناء ثم نقلت برًّا إلى الأقصر، وكذلك ما تشير إليه بردية هاريس من عهد الملك رمسيس الثالث من تجارة، ولا تشير إلى أن التجارة كانت تنقل عبر النيل بعد وصولها إلى موانئ البحر الأحمر.

تؤكد المصادر التاريخية وكتابات الرحالة والمؤرخين أن بداية الفكرة كانت أيام الملك نخاو الثانى من الأسرة السادسة والعشرين، ولكن المشروع لم يكتمل على حد زعمهم، أما المصدر الأثرى الأول فكان لوحات الملك الفارسى دارا الأول، ومن اللوحات لوحة فى المتحف المصرى بالقاهرة تخلد الأعمال فى القناة، وبجانب هذه اللوحة فقد كشف الفرنسيون عن لوحة أخرى فى قرية سيرابيون بالإسماعيلية، ولوحة أخرى فى وادى الطميلات عند التقائه مع خليج السويس.

أمّا أول من تحدّث عن القناة وربطها بين البحر الأحمر والنيل صراحة من الكُتّاب الكلاسيكيين فكان هيرودوت، وأكد أن الفكرة بدأت مع الملك نخاو الثانى من الأسرة السادسة والعشرين، وأن العمل توقّف بعد موت الملك.

ويشير إلى أن مَن شارك فى العمل كان نحو مائة وخمسين ألف عامل، وهو ما يؤكده ديودور الذى زار مصر فى نهاية القرن الأول قبل الميلاد، وسمع أن العمل بدأ مع نخاو الثانى ودارا الأول من بعده ثم توقف لانخفاض منسوب المياه، وأن الملك بطلميوس الثانى أكمل المشروع بحفر خندق عرضه 100قدم، وعمقه 30 قدمًا، وطوله 35 ميلًا تقريبًا حتى منطقة "البحيرات المُرة". وقد دَوّن "بطليموس الثانى" ذلك العمل الذى قام به فى لوحته المعروفة بـ"لوحة بيثوم"، وسُميت هذه القناة باسم "نهر بطليموس"، وعندها أسّست مدينة أرسينوى بعد ذلك.

استمرت القناة تحمل نفس الأهمية والقيمة فى العصر الرومانى؛ حيث يشير بطليموس الجغرافى إلى قناة كانت تخرج من النيل إلى البحر الأحمر وتسمى قناة تراجان، نسبة إلى الإمبراطور الرومانى الذى حَكم مابين 98 - 117 ميلادية، ولكن الغريب أنه تحدّث عن حفر القناة عند منطقة حصن بابليون (منطقة مصر القديمة حاليًا). استمرت القناة تحمل الأهمية نفسها خلال العصر الإسلامى. 

وعلى أى حال، ومن خلال ما تقدّم عرضه من إشارات تاريخية، وأثرية، يُمكن القول بأن ما يُعرف بـ"قناة سيزوستريس"، وارتباطها بفكرة "قناة السويس" يُعد أمرًا غير مقبول، وذلك لعدة أسباب، لعل منها: أن القناة المصرية القديمة كانت تربط النيل بالبحر الأحمر، وليس البحرين المتوسط والأحمر.

رحلة بلاد بونت

إن كل النصوص المصرية القديمة، ولاسيما عهد حتشبسوت (1473-1458 ق.م)، ورحلتها الشهيرة إلى "بلاد بونت"، وكذلك نص "بردية هاريس" التى ترجع لعهد الملك "رمسيس الثالث" وهذا النص يُشير إلى نقل البضائع التجارية من نهر النيل عبر الصحراء، ومن ثم إلى ساحل البحر الأحمر يؤكد عدم وجود قناة مباشرة تربط بينهما. ويلاحظ من جانبٍ آخر أن المؤرخ "هيرودوت"، وهو أقدم المؤرخين الكلاسيكيين الذين تناولوا القناة لم يذكر اسم "سيزوستريس" مرتبطا بهذه القناة، ولكن مَن أشار إلى ذلك الأمر كان عدد من المؤرخين المتأخرين من بَعده، وهنا يمكن الإشارة إلى أن المصريين القدماء فى "المرحلة البطلمية" أرادوا إثبات مصرية تلك القناة من خلال نسبتها إلى ملوك مصريين قدامى، وذلك فيما يبدو تعبيرًا عن قوميتهم، وحضارتهم، وهو أمرٌ اعتادوا عليه فى العديد من المواقف والمناظر خلال العصرين البطلمى والرومانى.

ومن هنا، يُمكن القول إن هذه القناة ليس لها أى ارتباط بقناة السويس المعروفة حاليًا، وأنها كانت تربط كلّا من نهر النيل والبحر الأحمر، وليس البحرين، وعلى هذا يمكن تسميتها حسبما أشار إليه دكتور عبدالمنعم عبدالحليم (قناة النيل والبحر الأحمر)، أو ربما نسميها باسم: "قناة الفراعنة".

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق