قصة العهد؟!

رشدي الدقن
ما بين المريد وشيخه دروب شائكة يخطوها المريد عاشقا.. محبّا.. متذللا.. راضيًا.. لينتقل من حياة الغفلة والعيش فى الملذات إلى حياة التوبة ومراجعة النفس والتقرُّب إلى الله.
الشيخ والمريد هما قوام أى طريقة صوفية، لذا يجب أن يكون هُناك رابط بين الطرفين، وهذا الرابط يُسمى بـ"العهد أو البيعة".
كلمة "صوفى" أطلقت على الذين يتركون ملذات الحياة ونعيمها، ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح، والزهد والتأمل، وهى صفات لا ترتبط حتمًا بالتصوف الإسلامى.
فالمذهب الصوفى، رُغم اختلاف طريقته بين الديانات المختلفة السماوية منها والأرضية؛ فإنه ارتبط عند الجميع بمبادئ واحدة، وهى الحب، والشوق للمحبوب والزهد فى متاع الدنيا والتأمل كطريق للوصول للذات الإلهية.
وعبر كل المتصوفة عن تلك الرغبة فى لقاء المحبوب عن طريق الشعر والأدب، والكتابات الخاصة بالمتصوفة، ومذكراتهم.
ويعتبر العهد، أوثق رباط بين رجلين تحابّا فى الله وتعاهدا على طاعته فى عُرف المتصوفة، ومعناه الأخذ والتلقى وطاعة شيخ الطريقة، والمحافظة على الواجبات والآداب الشرعية، مع مراعاة المريد لما يلقنه له شيخه من الأذكار والأوراد اليومية وأداء الصلاة، واتباع طريقته.
وبحسب ما يقوله الصوفية؛ فإن «يد الشيخ» التى يصافحها المريد أثناء العهد، ترمز إلى البيعة التى أعطاها المسلمون لرسول الله "ص"، فى صُلح الحديبية.
ويعتبر العهد رباطا مقدسًا لا يستطيع المريد أن يتحلل منه وقتما يشاء، ولذلك يتوخى الكثير من المشايخ الحذر وعدم التسرع فى إعطاء العهد للمريد.
ففى البداية يُجرون للمريدين بعض الاختبارات للتأكد من رغبتهم فى الانضمام للطرُق، ولتقييمهم أخلاقيّا ودينيّا.
مرحلة التلقين
العهد فى الطرُق الصوفية له أسلوب وطريقة معينة، حيثُ يجلس المريد أمام شيخه وهو فى قمة الانكسار والأدب والاحترام، ويجب أن يكون طاهر البدن، وكذلك يجب أن يكون مرتديًا لثياب جديدة أو نظيفة على الأقل.
وكذلك يجب أن يقوم بالصلاة ركعتين بنية التوبة النصوحة، وأن يكون حسن النية، وأن يجلس فى اتجاه القبلة، وينظر إلى شيخه، ويكون مستعدّا لما سوف يلقنه به شيخه ليردد ما يقوله بالحرف.
وعقب الانتهاء من مرحلة التلقين، يقوم المريد بمصافحة شيخه؛ لأن المصافحة سُنة نبوية، ويقال إن المصافحة تجعل المريد وشيخه يتصلان بالروح، بحسب اعتقادهم.
وكل طريقة لها طقوس فى أخذ العهد؛ فمنهم من يقوم بجعل المريد يرتدى عمامة خضراء أو عمامات بألوان أخرى.
والبعض الآخر يقوم بوضع قطعة قماش على رأس المريد والشيخ أثناء أخذ العهد.
ثم يبدأ الشيخ فى تلقين المريد «الورد» الذى تضعه كل طريقة لنفسها.
وجميع الطرُق الصوفية فى مصر والعالم الإسلامى لها وِرد يومى معين، لكن فى الأساس يكون موجودًا فى أى وِرد يومى الاستغفار والصلاة على النبى محمد "ص".
وتقسم مراتب العضوية فى الطريقة إلى مريدين، ولكل مجموعة من المريدين شيخ، ولكل مجموعة من الشيوخ شيخ سلك الطريق من قبل يوجههم ويسمى خليفة الخلفاء، ولكل مجموعة من الخلفاء خليفة.
وللشيخ مرتبة عظيمة فى التربية الصوفية، فهو المعلم والمرشد والناصح والداعية.
وبحسب شهاب الدين السهروردى- أحد أعلام التصوف السُّنى فى القرن السابع الهجرى، ومؤسّس الطريقة السهروردية الصوفية- فى كتابه "عوارف المعارف فى شرح الحديث" فرتبة الشيخ من أعلى الرتب فى طريق الصوفية فى الدعاء إلى الله.
فمسألة التزكية والتصفية عند الصوفية لا تتم حتمًا إلا بوجود الشيخ؛ لأنه- حسب السهروردى- يسلك بالمريد طريق التزكية، وهنا يجتمع مفهوما الاقتداء بالرسول والتزكية فى مصطلح الطريق أو الطريقة التى من نتائج اتباعها تزكية النفس، التى هى مطلب المريد، والهدف المرسوم لكل سالك. والشيخ حسب المرويات هو من يقوم بفعل سياسة النفس الإنسانية وتوجيهها نحو سبيل المعرفة الإلهية، وهى مرتبة يمكن إدراكها للسالك بتحقق سرها فيه حسب قول السهرودى (والسر فى وصول السالك إلى رتبة المشيخة أن السالك مأمور بسياسة النفس مبتل بصفاتها، لايزال يسلك بصدق المعاملة حتى تطمئن نفسه، وبطمأنينتها ينتزع عنها البرودة واليبوسة التى اصطحبتها من أصل خلقتها، وبها تستعصى على الطاعة والانقياد للعبودية، فإذا زالت اليبوسة عنها ولانت بحرارة الروح الواصل إليها ـ وهذا اللين هو الذى ذكره الله تعالى فى قوله (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)، تجيب إلى العبادة، وتلين إلى الطاعة عند ذلك).
فالمشيخة هى أداة لتطويع نفس المريد والسلوك به إلى مناهج الانقياد الروحى لما أمر به الله عز وجل.
وبالتالى فهى سُلطة روحية مهمتها الأولى إرشاد السالك إلى الطريق وحضه على التزكية وحفظ نفسه من الحياد عن الطريق الذى شرع الله لعباده على لسان رسوله، والشيخ بذلك خليفته فى تبليغ الشريعة ورسم الطريقة وبلوغ الحقيقة حسبما يقولون.
الشروط
لكن ما هى شروط المشيخة التى بتحققها فى الشيخ يكون أهلًا للتربية والتلقين والتزكية؟.. وما هى حدود سُلطته الروحية على المريد؟
بحسب الشيخ الكتانى فى مؤلفه سلم الارتقاء (... فمن ظفر به فليدأب عاكفًا بعتبته، مستمنحًا من روحانيته ما منحته)… محددًا بذلك شكل العلاقة بين الشيخ والمريد وطبيعتها.
ثم يقول فى تعداد الشروط الواجب توافرها فى الشيخ (وإلا فلايزال باحثا عنه طالبًا له، إلى أن يجده مطبقًا هذه الأوصاف عليه ـ وهي: أن يراعى الأنفاس تتجدد عليه المواهب على الأنفاس) ـ وهو المعبر عنه بـ "الصلاح".
وأن يكون أوتى الفهم عن الله فى جميع المتحركات والسواكن الكونية ـ وهو المعبر عنه بـ "الذوق"، ولا يكاد يتحرك شىء أو يسكن إلا وفهم عن الله منه علمًا ينتفع به ـ وهو المعبر عنه بـ"العلم".
ومن الضرورى أن يكون الشيخ بكاءً على ما فاته من ربه، ضاحكًا خلال البكاء، لا تغرب شمسه ـ وهو المعبر عنه بـ"التقوى"، وإذا رأيته تحسبه ذا ألسن وذا عقول وذا عيون وذا أسمعة ـ وهو المعبر عنه بـ"الخارقة"، ولا تراه فى حال رأيته عليه قبل ذاك اللقاء الثانى ـ وهو المعبر عنه بـ"الكرامة".
إن هذه الشروط اللازم توافرها فى الشيخ المربى حسب الشيخ الكتانى، تجعل منه وريثا للنبى "ص" وخليفة له، وهذا الأمر نجده مقررًا بشكل جلى فى الأدبيات الصوفية؛ خصوصًا فى مسألة السند الصوفى الذى يجب أن يكون متسلسلا متصلا برسول الله "ص"، كما نجده كذلك فى مسألة القول بالتلقى المباشر عن الرسول، والسماع منه شفاهة بعض الأذكار والصلوات التى يتم تقريرها فى أوراد الطريقة.
وقد يصل الحال ببعض المتصوفة إلى القول بمشاهدة النبى يقظة والسماع منه، من العلوم اللدنية ما خفى على السابقين من سالكى الطريق، ليحوز بذلك مقامًا أسمَى بين العارفين والأولياء . وهذا ما أدى بمؤلفى طبقات الصوفية إلى تصنيف شيوخ الطريق فى مراتب معينة حسب مدارك كل واحد منهم فى الكشف والذوق والكرامات والعلوم الباطنية التى يمليها على المريدين.
كما ذهب بعض المتصوفة كأبى بكر الكتانى البغدادى إلى تصنيفهم إلى أقطاب وأبدال وأوتاد ونقباء، وصولًا إلى الغوث.
كما جعلوا سيد هؤلاء هو خاتم الأولياء، الذى يعتبر بالنسبة لجميع المتصوفة صاحب الطريقة الحقة الجامعة والمهيمنة على جميع الطرُق، باعتبار خلافته للنبى.
منن الأولياء
وقد صنف فيه محمد بن على بن الحسن الشهير بالحكيم الترمذى مؤلفًا حافلا أسماه "ختم الأولياء"، يتكون من تسعة وعشرين فصلا ذكر فيها أوصاف الأولياء وخصالهم وعلومهم، كما ميز بينهم وبين الأنبياء، وعرف فيها بختم الأولياء فى الفصل الثالث عشر قائلا (... وما صفة ذلك الولى، الذى له إمامة الولاية ورياستها وختم الولاية؟
وقال: ذلك من الأنبياء قريب، يكاد يلحقهم، فأين مقامه؟
قال: فى أعلى منازل الأولياء، فى ملك الفردانية، وقد انفرد فى وحدانيته، ومناجاته كفاحًا فى مجالس الملك وهدايا من خزائن السعى، وما خزائن السعى؟
قال: إنما هى ثلاث خزائن: المنن للأولياء، وخزائن السعى لهذا الإمام القائد، وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام، فهذا خاتم الأولياء مقامه من خزائن المنن ومتناوله من خزائن القرب فهو السعى أبدًا فمرتبته هنا ومتناوله من الأنبياء عليهم السلام، وقد انكشف له الغطاء عن مقام الأنبياء ومراتبهم وعطاياهم وتحفهم).
كما أسماه فى موضع آخر بالمجذوب، الذى وجبت له الإمامة على الأولياء؛ حيث يقول فى الفصل الخامس والعشرين (وكذلك هذا الولى يسير به الله تعالى على طريق محمد "ص"، بنبوته، مختومًا بختم الله، فكما كان محمد "ص" حجة على الأنبياء، فكذلك يصير هذا الولى حجة على الأولياء).
لا أحد يعرف ما حقيقة هذا الكلام، ولا مدى توافقه مع الدين الإسلامى.. إضافة إلى أن هذا الوصف بتسييد الولى الختم على جميع الأولياء وجعله حجة عليهم، وبلوغه تلك الدرجة أى بين الأولياء والأنبياء، أثر كثيرًا فى الأدب الغيبى للتصوف، الذى أنتج العديد من القصص بخصوص ما يعرف بالتنبؤ بمجىء الولى الختم وزمان ظهوره وبزوغ شمسه.
وهو ما شابه إلى حد بعيد- حسب رأى عدد من الباحثين- مذهب من يتحدثون عن ظهور المهدى أو الإمام الغائب.
وهذا الأمر بغض النظر عن صحته أو بطلانه، له أهمية بالغة فى تفسير عدد من الحالات التى ادعى فيها بعض مشايخ التصوف أنهم الولى الخاتم، والتى كانت لها تداعيات كبيرة كما هو الأمر لابن قسى وابن برجان فى الأندلس.
ويقولون إن الولاية فى حالة الختم هى ولاية عامة، يصبح فيها الشيخ حجة على الناس جميعًا، ذا سُلطة فى الإرشاد والتوجيه، ولا مجال أمام الناس إلا الائتمار بأمره وطاعته لأنه يمنح من خزائن المنن والسعى والقرب.
وهو الإمام القائد كما يقول الحكيم الترمذى، لذلك فمجالات تدخلها شاملة، ليس باعتبار أن الروحى يهيمن على الزمنى حسب المفهوم الشرعى، ولكن لأن الولى الخاتم ذو سُلطة مطلقة وإمامة وولاية عظمَى مهيمنة على جميع الولايات التى قبله وحجة عليها يوم القيامة.
وبالتالى فتدخل الولى الختم أمر شرعى لا محالة فى جميع مناحى الحياة العامة للمسلمين حتى ولو لم يكونوا على طريق التصوف، فطريقته هى الطريقة المثلى والتطبيق الحقيقى لتعاليم الشرع، حسب ما يعتقدون.
لا أحد يعرف مدى صحة هذا الكلام مرة ثانية!!
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة