الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الهائمون فى ملكوت ربنا

الهائمون فى ملكوت ربنا

«قلوب العارفين لها عيون ترَى ما لا يراه الناظرون.. وأجنحة تطير بغير ريش إلى مَلكوت رَبّ العالمين». 



كان وصف الحلاج حال الهائمين فى مَلكوت الله، فى أجواء روحانية خالصة مجردة من كل ما يُعكر صفوها، لحظات يجلس فيها المستمعون مستسلمين هائمين، تسيطر عليهم مشاعر الوجد والتجلى فى تذوق العبارات والانفعال بالمعانى.

هكذا تبدو عادة الجماهير فى حفلات الإنشاد، تتميز الأشعار والابتهالات الدينية، سواء الخاصة بمديح الرسول "ص"، أو التى تحوى أشعارًا فى العشق الإلهى، بضيق العبارة واتساع المعنى وعُمق المضمون، فيها ما يمس شغاف القلوب، ويجلو الروح، من تعلقها بهموم الدنيا وفتح آفاق النفس الإنسانية إلى عالم روحانى.

ربما لم تعتد الاقتراب منه فى حياتها اليومية المشحونة بالضغوط والهموم الدنيوية، فقد تُحيى هذه الأشعار فطرة الحُب الأولى التى فَطر اللهُ الناسَ عليها، وبالتالى يستحوذ هذا النوع من الفن على اهتمام الجميع.. المتصوفون منهم وغير المتصوفين.

بداية الإنشاد

بدأ الإنشاد فكرة ثم تطوَّر الأمر فى الشام ومصر والعراق وغيرها من البلدان، أصبح له قوالب متعددة وأساليب متنوعة فى طريقة الإلقاء.

 بدأت تظهر طوائف المتصوفة والدراويش وأصبح لكل فئة منشدوها، فقد ابتدع الدراويش لأنفسهم طريقة جديدة فى التعبير والتقرب إلى الله، وهى مجالس الأذكار التى راح العامّة من الناس يجتمعون لها، يرقصون ويطربون ويأكلون.

وقد أدرك الدراويش أهمية الجانب الوجدانى فأكدوا على مبدأ التأثير بالموسيقى، وأدخلوه ضمن شعائرهم.

تطوَّر فنُّ الإنشاد الدينى فى عهد الفاطميين، فكانوا هم أول من أقاموا الاحتفال برأس السَّنة الهجرية، وليلة المولد النبوى الشريف، وليلة الأول من رجب، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة أول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، ويوم الفطر، ويوم النحر، وهم أول من احتفل بمولد على بن أبى طالب، ومولد الحسن والحسين والسيدة زينب، ويوم النيروز، وشم النسيم، ويوم الغطاس.

مشاهير المنشدين

تنوَّع شكل الإنشاد الدينى فى العصر الحديث؛ خصوصًا مع رسوخه بظهور عدد لا حصر له من المنشدين، فمنهم من اعتمد على استخدام آلات موسيقية لإدخال ألحان جاذبة على صوته كى يكون أكثر مواكبة للعصر الحالى. ومنهم مَن رفض وظل معتمدًا على عذوبة صوته وفيضان إحساسه، مثل الراحل سيد النقشبندى، الذى قدَّم مقطوعة "مولاى" من ألحان بليغ حمدى بعد أن بذل الأخير جهدًا فى إقناعه بإدخال الموسيقى على صوته العذب.

من أشهَر المنشدين الذين أصبح لهم باع طويل فى سلك الطريق الشيخ على محمود، وكان منشد مصر الأول وقارئ مسجد الإمام الحسين الأساسى، وصاحب مَدرسة عريقة فى الإنشاد والتلاوة.

وُلد الشيخ على محمود عام 1878 بحارة درب الحجازى بحى الحسين بالقاهرة لأسرة ميسورة الحال، وقد تعرَّض بعد فترة إلى حادث تسبب فى فقدان بصره كاملًا، والتحق فى سِنّ مبكرة بالكُتّاب ليحفظ القرآن الكريم، كما درس الموسيقى وتعلم ضروب التلحين والعزف بالإضافة إلى حفظ الموشّحات.

 درس الشيخ على محمود على يد الشيخ على المغربى وكذلك شيخ أرباب المغانى محمد عبدالرحيم المسلوب. كما تعلم على يد الشيخ التركى عثمان الموصلى، الذى تمكن من خلاله أن يطلع على الموسيقى، وشغف بفن عبده الحامولى، وتتلمذ على يديه الشيخ محمد رفعت وطه الفشنى وكامل يوسف البهتيمى ومحمد الفيومى وغيرهم، بالإضافة إلى الملحن الشيخ زكريا أحمد والموسيقار محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وأسمهان.

كان الشيخ على محمود مؤذنًا لصلاة الفجر فى مسجد الحسين.

وشارك فى الأمسيات الدينية بمنزل الموسيقى الشهير أمين المهدى، وكذلك فى منزل أبرز رُوّاد التلاوة الشيخ أحمد ندا، كما كان ينشد التواشيح والقصائد الدينية من الساعة 10م حتى أذان الفجر.

وكذلك يُعَد الشيخ طه الفشنى من أشهَر المنشدين وصاحب مَدرسة متفرّدة فى التلاوة والإنشاد، وكان ذا علم وخبرة كبيرة فى فن المقامات والأنغام، وتتلمذ على يد منشد مصر الأول الشيخ على محمود، وكان قارئ مسجد السيدة سكينة منذ عام صص إلى وفاته.

تعرَّض "الفشنى" إلى مشكلة انحباس صوته وتسببت هذه الحادثة فى حزنه الشديد حتى توفى عام 1971.

 أمّا الشيخ محمد الفيومى فكان مشهورًا عنه حُب الخير ومساعدته للفقراء والمحتاجين، وله باع فى علم الإنشاد الدينى والتواشيح الدينية، ووُلد الفيومى عام 1905 بحى الجمّالية بالقاهرة كفيف العينين، وحفظ القرآن الكريم كاملًا فى العاشرة من عمره، وتعلم التجويد والترتيل على يد الشيخ حسن الجريسى الأزهرى، وذاع صيته فى الأربعينيات من القرن العشرين.

الكروان الخاشع

 ويُعد الشيخ سيد النقشبندى من أهم وأشهَر المنشدين والمبتهلين فى تاريخ الإنشاد الدينى، لقب بالصوت الخاشع الكروان، وهو أستاذ المداحين وصاحب مَدرسة متميزة فى الابتهالات، ويرى الموسيقيون أنه من أقوى الأصوات فى تاريخ التسجيلات.

 وُلد "النقشبندى" عام 1920 بحارة الشقيقة بقرية دميرة، إحدى قرى محافظة الدقهلية، ثم انتقل مع أسرته إلى طهطا بالصعيد، وحفظ القرآن الكريم فى سِنّ مبكرة على يد الشيخ أحمد خليل، وتعلم الإنشاد الدينى فى حلقات الذّكر بين مريدى الطريقة النقشبندية.

 كان والده أحد علماء الدين ومشايخ الطريقة النقشبندية الصوفية، وكان يتردد على مولد أبو الحجاج الأقصرى وعبدالرحيم القناوى وجلال الدين السيوطى، وحفظ أشعار البوصيرى وابن الفارض.

ولم يذع صيته فى مصر فقط، بل امتد إلى العديد من الدول العربية، وسافر إلى عدة دول لإحياء ليالى دينية هناك.

 وأجمع خبراء الأصوات على أن صوتَه مكونٌ من ثمانى طبقات، ويُعتبر من أعذب الأصوات التى قدمت الدعاء الدينى حتى توفى عام 1976.

 أمّا الشيخ نصر الدين طوبار فهو من مشاهير المنشدين، وللغرابة لم ينجح فى اختبارات الإذاعة من أول مرّة، بل تقدَّم للاختبارات عدة مرّات حتى نجح فى المرّة السابعة، ثم ذاع صيته بعد ذلك، سافر إلى العديد من الدول العربية والأجنبية، وكتبت عنه الصحف الألمانية، "صوت يضرب على أوتار القلوب"، كما أنشد فى قاعة ألبرت هول بلندن فى حفل المؤتمر الإسلامى.

وُلد الشيخ نصر الدين طوبار عام 1920، بالمنزلة بمحافظة الدقهلية، واختير مشرفًا وقائدًا لفرقة الإنشاد الدينى التابعة لأكاديمية الفنون بمصر فى عام 1980، وتم تعيينه قارئًا للقرآن الكريم ومنشدًا للتواشيح بمسجد الخازندار بشبرا، له ما يقرب من 200 ابتهال، وتوفى عام 1986.

نقابة الإنشاد

ويُعتبر الشيخ ياسين التهامى من أشهَر وأهم المنشدين اليوم، وُلد عام 1949 بقرية الحواتكة مركز منفلوط محافظة أسيوط، يقدم العديد من أشعار الحلاج.

 ويتسابق الجمهور لحضور أمسياته؛ حيث تشهد حفلاته زحامًا كبيرًا، وورث عنه الإنشاد نجله محمود التهامى نقيب المنشدين الذى يؤكد دائمًا أنه امتداد لأبيه حتى أنشأ نقابة للإنشاد الدينى كى يتبلور الإنشاد فى شكل مؤسّسى.

ويشكل الاثنان أهمية كبرى فى عالم الإنشاد اليوم، فلا تخلو أمسية منهما.

فى خلال السنوات القليلة الماضية انتقل شكل الإنشاد الدينى من الفردى إلى الجماعى، حيث بدأت تتشكل عدد من الفِرَق الفنية المتخصصة فى الإنشاد، مثل فرقة "الحضرة"، "فرقة سماع للإنشاد الصوفى" التى أسّسها المخرج انتصار عبدالفتاح وانطلق منها مهرجان سماع الدولى للإنشاد الصوفى والموسيقى الروحية.

 وتوسّع المهرجان فى شكل وأسلوب تقديم الإنشاد الدينى بشكل لم نعهده من قبل؛ حيث تضمّن فِرَقًا من دول مختلفة تقدم كل منها ثقافتها وأسلوبها الفنى فى إنشادها الدينى، سواء باستخدام آلات موسيقية مُعينة أو بترتيل أناشيد ومقطوعات تُعبر عن الثقافة الصوفية الخاصة بكل بلد شارك على مدار دورات المهرجان، ومنها فِرَق من الهند، بنجلاديش، جنوب إفريقيا، سوريا، الأردن، ليبيا، إسبانيا، باكستان، المغرب، تونس، ماليزيا، سيريلانكا وماليزيا، وغيرها من الفِرَق التى تعددت أشكال التصوف والإنشاد بها، بجانب مشاركة كورال الكنيسة بتقديم تراتيل مسيحية ويشهد هذا المهرجان زحامًا جماهيريّا غير مسبوق بمسرح بئر يوسف بالقلعة.

ولأول مرّة يتم تأسيس فريق للإنشاد الدينى من النساء، والذى أنشأته نعمة فتحى بعنوان "الحور العين"، ويضم مجموعة من الفتيات يعملن بمجال الإنشاد.

 كانت "نعمة" قد التحقت بمَدرسة الإنشاد الدينى التى أنشأها محمود التهامى، وبدأ الفريق فى تقديم مجموعة من الابتهالات وأشعار المديح، وأصبح من الفِرَق المطلوبة فى المناسبات والاحتفالات الدينية.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق