د. أسامة السعيد
عقوبات «البراطلة».. وأوامر بكسوة الجهادية!
رُغم أن الحملة الفرنسية لم تستمر فى مصر سوى ثلاث سنوات، وشهدت ثورتين، ومواجهات لا تنتهى، فإن نابليون أنشأ خلال تلك السنوات المعدودة ما يشبه المجالس النيابية، وكان يطلق عليها "الدواوين" وكان أعضاؤها مُعَينين من قِبَل السُّلطات الفرنسية، ولها لوائح تحدد طريقة عملها.
هذه الفكرة، رُغم ما اعتراها من سلبيات، فإنها تركت صدًى واسعًا حول سُبل الحُكم الحديث، وهو ما بدأ فى التطوّر خلال الفترة التى أعقبت خروج الفرنسيين من مصر، ووصول "الباشا" محمد على الكبير إلى السُّلطة بإرادة المصريين، فبدأت فكرة المجالس النيابية فى التطور، وصولًا إلى فكرة البرلمان المنتخب.
كان المصريون قد اكتسبوا خبرة جديدة، فشهدت السنوات الخمس الأولى من القرن التاسع عشر حالة من الثورة المستمرة ضد باشوات العثمانيين وأمراء المماليك، انتهت بانتزاع المصريين حقهم فى اختيار حاكمهم، وفرضوا على السُّلطان العثمانى محمد على حاكمًا لولاية مصر، كما ألزموا الباشا الجديد بشروط كان عليه أن يلتزم بها فى إدارة أمور البلاد، هذه الشروط يمكن أن نعتبرها بذور فكرة "الدستور" المنظم للعلاقة بين الشعب وحاكمه.
ومنذ توليه السُّلطة بإرادة المصريين، ورُغم أنف السُّلطان العثمانى، راح محمد على باشا، بدواعى تنظيم إدارة البلاد يبنى فوق آخر ما أنجزته الحملة الفرنسية، وكان مقتنعًا بضرورة إقامة مؤسّسات حُكم حديثة، كما كان يميل إلى مشاورة مستشاريه، ومن هنا جاءت فكرة المجالس أو الدواوين التى أسّسها وكان يرجع لها فى مختلف شئون الدولة.
بدايات مبكرة
فى عام 1824 تم تكوين "المجلس العالى" الذى يُعد البداية لأول مجلس نيابى يتم اختيار بعض أعضائه بالانتخاب ويراعى فيه تمثيل فئات الشعب المختلفة، حيث تكوَّن من 24 عضوًا فى البداية ، ثم صار عددهم 48 عضوًا بعد إضافة 24 شيخًا وعالمًا إليه.
وبذلك أصبح يتألف من نُظار الدواوين، ورؤساء المصالح، واثنين من العلماء يختارهما شيخ الأزهر، واثنين من التجار يختارهما كبير تجار العاصمة، واثنين من ذوى المعرفة بالحسابات، واثنين من الأعيان عن كل مديرية من مديريات القُطر المصرى ينتخبهما الأهالى.
وفى يناير 1825 صدرت اللائحة الأساسية للمجلس العالى وحددت اختصاصاته بأنها "مناقشة ما يراه أو يقترحه محمد على فيما يتعلق بسياسته الداخلية.."، وقد تضمنت اللائحة الأساسية كذلك مواعيد انعقاد المجلس وأسلوب العمل فيه.
لعب المجلس العالى دورًا مُهمّا فى الإصلاحات الإدارية التى قام بها محمد على باشا على عدة مراحل، حيث تم تقسيم الدولة إلى 9 مديريات، وتم إنشاء لأول مرّة فى مصر جهاز إدارى، وكان للمجلس العالى دور فى مراقبة العمل بتلك المديريات.
هيئة أخرى ألفها محمد على سنة 1829 يصح أن تُعد نواة لنظام شورى وهى (مجلس المشورة)، كان يتألف من كبار موظفى الحكومة والعلماء وأعيان القُطر المصرى برئاسة إبراهيم باشا، وهذا المجلس يشبه فى عدد أعضائه وتمثيلهم لمختلف الطبقات أن يكون جمعية مؤلفة من 156 عضوًا منهم 33 من كبار الموظفين والعلماء و24 من مأمورى الأقاليم و99 من كبار أعيان القُطر المصرى.
وكانت سُلطة مجلس المشورة استشارية، على مسائل الإدارة والتعليم والأشغال العمومية، وما يقترحه الأعضاء فى هذا الصدد مما ترشدهم إليه اختباراتهم، وينظر فى الشكايات التى تُقدَّم إليه، وينعقد مرّة واحدة فى السنة ويجوز أن يستمر الانعقاد عدة جلسات.
صدرت لهذا المجلس فى عام 1830 مجموعة من التعليمات التى اشتملت على أسُس وأساليب عمله، وفى عام 1833 سَنّ مجلس المشورة قانونًا خاصّا به كان بمثابة تكملة للتعليمات السابقة، وتناول تنظيم فترات انعقاده، وإجراءات ما يجرى به من مداولات، وما يصدر عنه من قرارات.
الانعقاد الأول
نشرت جريدة (الوقائع) خبر انعقاد مجلس المشورة لأول مرّة، فأشارت إلى أنه اجتمع عصر يوم 3ربيع الأول سنة 1245هـ (2 سبتمبر سنة 1829م) فى قصر إبراهيم باشا (القصر العالى) وتحت رئاسته.
وحضر الاجتماع جميع الأعضاء، وعرض عليه كل الشئون الخاصة بالأقاليم، خصوصًا ما كان موجودًا منها بالديوان العالى، وذكرت أسماء الأعضاء مع بيان وظائفهم وألقابهم، وفى مقدمتهم، إبراهيم باشا (رئيس المجلس).
ومن الأعضاء، عباس باشا (حفيد محمد على)، أحمد باشا مأمور الأقاليم الوسطى، محمد خسرو باشا مأمور الجيزة والمنوفية والبحيرة، شريف بك (الكتخدا بك) مأمور الأقاليم الصعيدية، محمود بك ناظر الجهادية، السيد البكرى نقيب الأشراف، كتخدا أغا والى جدة، أمير اللواء محمد بك ناظر عموم المهمات الحربية ومعمل البارود والطبخانة وعموم الفابريقات، حسن أغا رئيس بوابى الركاب العالى وناظر المواشى الأميرية.
واللافت للنظر أن أول قرار لمجلس المشورة فى بداية جلساته كان خاصّا بالتعليم، إذ قرّر إعداد مكتب لتعليم كتبة الديوان اللغتين العربية والتركية، وأمور الفلاحة (الزراعة)، وقرّر أنه كلما تم تعليم عدد من كتبة الديوان يرسلون إلى الأقاليم ويجىء غيرهم لتعليمهم ثم إرسالهم، ويستمر العمل حتى يصير القائمون بالعمل فيهم الكفاءة لإدارة مصالح الحكومة".
كما قرّر المجلس ارتداء جميع الموظفين كساوَى الجهادية، وقرر بناء على طلب الدفتردار (مدير الشئون المالية) جعل أعمال السخرة بالمناوبة، بحيث يتناول أهل كل بلد العمل أسبوعًا بعد أسبوع، إلا إذا كان كثيرًا فيستخدمون بأجمعهم حتى يتم، ولا يُعفى من العمل إلا عمال الفابريقات (المصانع).
وفى هذه الجلسة ذاتها وبناءً على طلب مأمور السنبلاوين تقرر أن يكون عمل الفلاحين فى التطهيرات وبناء القناطر وإصلاح الجسور فى أشهُر "توت وبابه وكيهك وطوبة وأمشير وبرمهات وبؤونة" وكلف مأمور الديوان الخديوى بأن يأمر بذلك نظار الأقسام ومأمورى الأقاليم.
ومن قراراته أيضًا أخذ 1000 غلام من كل من القاهرة وبولاق ومصر القديمة لتشغيلهم بالأجرة فى فابريقات الحكومة، وأخذ الصالحين للعمل من المتسولين للالتحاق بهذه الفابريقات وأن ترتب لهم أرزاق يومية، وبعد تعلمهم الصناعة ترتب لهم أجور يومية.
كما بحث مجلس المشورة عقاب الموظفين ومشايخ البلاد (العُمَد) الذين تمتد يدهم إلى البرطيل (الرشوة) أو سلب أموال الأهالى، فقرّر إلزامهم برَدّ ما أخذوه ومجازاتهم بالعقوبات الشديدة.
وكان للمجلس دَور بارز فى النهضة الثقافية والاقتصادية التى عاشتها الدولة المصرية، إبّان حُكم محمد على باشا، فقد أسهم مجلس المشورة الذى كان يتمتع بصلاحيات أوسع من المجلس العالى، فى إرسال البعثات الطلابية إلى أوروبا، كذلك بناء مدارس أوروبية فى مصر لتدريس اللغات، وفى عام 1836 اقترح مجلس المشورة بناء مدرسة للغات، هدفها ترجمة المؤلفات الأجنبية إلى العربية.
وفى عام 1837 أصدر محمد على القانون الأساسى للدولة "السياستنامة" الذى ألغى مجلس المشورة وأحل مكانه مجلسين، هما: "المجلس الخصوصى" لسَن القوانين، و"المجلس العمومى" لبحث ما تحيله إليه الحكومة من أمور، وتم تنظيم الحكومة فى شكل سبعة دواوين أساسية.
شورى النواب
كان إسماعيل باشا، خلف محمد على، معجبًا بالأنظمة السياسية الأوروبية، فحاول أن يخطو أبعد من جده فى هذا المضمار، فكانت الخطوة الأهم فى تاريخ مصر الحديث، وكان ذلك فى عام 1866 الذى شهد إنشاء "مجلس شورى النواب".
ويُعَد "مجلس شورى النواب" أول برلمان يمتلك اختصاصات نيابية، وليس مجرد مجلس استشارى تغلب عليه الصفة الإدارية، وقد صدر المرسوم الخديوى بإنشاء المجلس فى شهر نوفمبر 1866 ، متضمنًا اللائحة الأساسية واللائحة النظامية للمجلس.
وتضمنت اللائحة الأساسية ثمانى عشرة مادة: اشتملت على نظام الانتخابات، والشروط القانونية الواجبة للياقة العضو المرشح، وفترات انعقاد المجلس.
وتضمنت سُلطات المجلس "التداوُل فى الشئون الداخلية، ورفع نصائح إلى الخديوى"، وتأثرت لوائح المجلس بشدة بالنظم البرلمانية التى كان معمولًا بها فى أوروبا فى ذلك الوقت، خصوصًا الهيئة التشريعية الفرنسية.
وكانت مدة المجلس ثلاث سنوات ينعقد خلال كل سنة منها لمدة شهرين، وقد انعقد مجلس شورى النواب فى تسعة أدوار انعقاد على مدى ثلاث هيئات نيابية، وذلك فى الفترة من 25 من نوفمبر 1866 حتى 6 من يوليو عام 1879.
وفرضَ المجلس عقوبات على مَن يتخلف من الأعضاء من دون عُذر عن حضور الجلسات، ومن ثم كانت نسبة الحضور عالية، وللدلالة على حيوية المجلس ونشاطه وندرة الغياب فيه أن أحد الأعضاء أرسل يعتذر عن عدم الحضور لمرضه، فما كان من أحد النواب إلا أن طلب توجيه رسالة للمديرية التابع لها العضو الذى يعتذر بالمرض للكشف عليه طبيّا بمعرفة حكيمباشى المديرية، فوافق المجلس على هذا الرأى.
وأرسى المجلس المبادئ الأولى للحصانة النيابية، حيث أشار إلى تمتع الأعضاء أثناء انعقاد المجلس بشىء من الحصانة النيابية، فلا ترفع عليهم دعوَى (جنائية) فى أثناء الانعقاد إلا إذا ارتكب أحدهم جريمة القتل وضبط متلبسًا بالجريمة.
ساهم مجلس شورى النواب فى إرساء العديد من التقاليد البرلمانية، التى أصبح معمولًا بها فيما بعد، وبعضها من التقاليد الراسخة فى الحياة البرلمانية حتى اليوم.
وأرسى المجلس تقليدًا تمثل فى عناية لائحة المجلس إلى حد تقرير نوع الملابس التى يرتديها العضو فى المجلس بأن تكون بالحشمة اللائقة وطريقة الجلوس بأن تكون بهيئة الأدب، ولم يكن بإمكان أى عضو نشر مناقشات المجلس أو طبعها إلا بإذن من الرئيس وإلا كان عرضه للجزاء الذى يوقعه به المجلس.
عـرابى
فى 9 من سبتمبر 1881 اندلعت الثورة العرابية، وكان من بين مطالبها تشكيل مجلس للنواب، وبالفعل أجريت الانتخابات لمجلس شورى النواب طبقًا لأحكام لائحة المجلس الصادرة فى سنة 1866، انتظارًا لقيام الحكومة بإعداد مشروع قانون أساسى جديد يتم عرضه على المجلس لإقراره، وقد افتتح المجلس الجديد الذى سُمى "مجلس النواب المصرى" فى 26ديسمبر عام 1881، وقدمت الحكومة مشروع القانون الأساسى، الذى كان بمثابة أول دستور لمصر، وصدر الأمر العالى به فى 7فبراير عام 1882، وجاء متضمنًا لمبادئ النظام النيابى البرلمانى، واعترف بسُلطات فعلية للبرلمان فى مجال التشريع والرقابة على الحكومة، وأقر بالمسئولية الوزارية أمام البرلمان.
وجعل هذا القانون الوزارة مسئولة أمام المجلس النيابى المنتخَب من الشعب، وللمجلس حق سؤال الوزراء واستجوابهم، كما كانت له أيضًا سُلطة التشريع، بما فى ذلك الشئون المالية، وهو ما أثار حفيظة الدول الدائنة، خصوصًا فرنسا وإنجلترا اللتين رأتا أن المجلس يجب أن يكون مجلسًا استشاريّا وليس له حق مناقشة الميزانية، ولكن مجلس شورى النواب أصرّ على أن يكون له جميع الحقوق فى مجال مناقشة الميزانية، فاستقال شريف باشا، وتألفت وزارة محمود سامى البارودى التى عَيّن فيها أحمد عرابى وزيرًا للحربية، وعُرفت باسم وزارة الثورة العرابية.
وأصبحت مدة مجلس النواب المصرى خمس سنوات، ودور الانعقاد ثلاثة أشهُر، لكن ذلك المجلس لم يدم طويلًا ، حيث انعقد انعقادًا عاديّا واحدًا منذ 26 من ديسمبر 1881 إلى 26 من مارس 1882، ثم قامت بريطانيا باحتلال مصر عام 1882 وألغت القانون الأساسى، وصدر فى عام 1883، ما سُمى بالقانون النظامى الذى كان انتكاسة للحياة النيابية فى مصر، حيث تضمّن تكوين البرلمان المصرى من مجلسين، هما: "مجلس شورى القوانين"، و"الجمعية العمومية"، كما أنشأ هذا القانون مجالس المديريات التى كانت وظيفتها إدارية لا تشريعية، ولكنها كانت تختص بانتخاب أعضاء مجلس شورى القوانين.
فقدت الحياة البرلمانية فى أعقاب الاحتلال البريطانى الكثير من زخمها وقوتها، فلم يكن الاحتلال والخديوى الموالى له راغبين فى أى شكل من أشكال الرقابة الشعبية، لذلك تحولت المجالس التى ظهرت فى تلك الفترة إلى مجالس هزيلة لا تُعبر عن إرادة الشعب، بقدر ما تمثل رغبات الخديو والاحتلال.
وبعد قدومه لمصر كمعتمد بريطانى، سارع اللورد كتشنر فى تعديل النظام النيابى فى مصر لتهدئة الرأى العام الذى كان يطالب بجلاء المحتل الإنجليزى، فألغى مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وأصدر قانونًا نظاميّا جديدًا يقضى بإنشاء الجمعية التشريعية فى أول يوليو 1913، وتأليف مجلس فى كل مديرية، وتكونت الجمعية من النظار (الوزراء)، ثم الأعضاء المنتخبين والمعينين، وكان عدد المنتخبين 66 عضوًا، مع مراعاة أن يكونوا من جميع المحافظات، أمّا الأعضاء المعينون فكان عددهم 17.
1500 قرش.. أول مكافأة برلمانية!
بينما ينص قانون مجلس الشيوخ "الأخير" على أن يتقاضى عضو مجلس الشيوخ مكافأة شهرية قدرها خمسة آلاف جنيه، فإن أول مكافأة برلمانية لمجلس "المشورة" الذى أنشأه محمد على باشا كانت 1500 قرش، وحينها كان الجنيه من الذهب الخاص، إضافة الى ثلاث وجبات يومية كانت تقدَّم على حساب المجلس، الذى كان "محمد على باشا" يحضر بنفسه بعض جلسات أعماله.
أمّا الخديو إسماعيل فلم يرتب لأعضاء البرلمان مكافأة شهرية، واكتفى بأن تُصرَف لهم مصاريف انتقالاتهم وعائلاتهم وأتباعهم وركائبهم، من خيول وبغال وحمير بالسكك الحديدية أو البواخر حسبما يطلبه العضو تبعًا لوجاهته ورفعة قدره.
ومن الطريف أنه أحصى عدد التذاكر الخاصة بعضو واحد وصرفت قيمتها له فكانت عشرين تذكرة بالدرجة الأولى والثانية فى ذهابه ومثلها فى إيابه.
وفى الوقت نفسه كانت تقدَّم للأعضاء ثلاث وجبات من الطعام على حساب المجلس!
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة