أدهم الشرقاوى.. قاطع طريق؟!
سعدتُ بدعوتى للمشاركة فى ملف عن الفتوة، وطُلب منّى الكتابة عن أدهم الشرقاوى، ربما من منطلق مراجعتى المسلسل الذى كتبه الأستاذ محمد الغيطى وأخرجه السورى باسل الخطيب.
ولكنى حين شرعت فى الكتابة وجدت أن المسألة أكبر من أهم من المسلسل، وإذا أفردت الصفحات لسِيَر أبطال وفتوات مصر الحقيقيين، الذين يتعدى نفوذهم الحارات والأحياء إلى مقاومة المحتل الأجنبى بصورة كلية فى أرجاء البلاد، لامتلأت بسيرتهم مجلدات.
تبدو أهمية فهم الظروف التاريخية فى تلك الفترة المفصلية من تاريخ مصر والعمل الوطنى، بعد عَقد من حدوث الاحتلال البريطانى، فقد تطورت الحركة الوطنية وشهدت بزوغ مصطفى كامل ومحمد فريد والحزب الوطنى وانتهاج العنف الثورى والنضال السّرّى بغية تحقيق الاستقلال، وكذلك أحمد لطفى السيد وأولئك الذين رأوا أن نهضة وبناء الوطن وتطوره كفيل بطرد المستعمر، مرورًا بأحداث الحرب العالمية وإعلان الحماية البريطانية، ثم النكوص الدولى عن الوعود بمنح مصر الاستقلال وترسيخ الحماية وصولًا إلى اشتعال ثورة 1919وبروز سعد زغلول والوفد وآخرين فى مسيرة العمل الوطنى.
الكفاح السّرى
تم تأسيس عشرات الجمعيات للعمل والكفاح السّرّى ضد سُلطات الاحتلال والمتعاونين معه، جنبًا إلى جنب مع سريان روح المقاومة بالكلمة والخطابة وبذل أبناء الوطن أقصى طاقاتهم، ولم يكن الطريق يسيرًا، فالمقاومة كانت فى مواجهة القوة العظمَى الأولى فى العالم آنئذٍ، ومن ثم اتخذت أساليب شتّى بالعمل السّرّى وانتهاج العنف سبيلًا للنضال والتضحية بأرواحهم فداءً فى سبيل الوطن.
وعلى النقيض من هؤلاء وُجد من بين أرباب "السُّلطة والمال"، مَن رأوا مصالحهم فى حماية الاحتلال، وقد ذخرت مصر بمختلف هذه النماذج، بما يؤكد تبايُن وجهات النظر تبعًا لدرجة التباعُد أو التقارُب مع السُّلطة والاحتلال.
عاش أدهم الشرقاوى هذه الفترة منذ مولده ما بين 1897و1898 فى ميت زبيدة بإيتاى البارود إلى حين مقتله فى أكتوبر 1921، وتبعًا لهذه التباينات، اختلفت النظرة المجتمعية له، فمَن توافقوا معه رأوه الفتوة بمقاييس عصره، واعتبروه بطلًا، ولكن الذين تصادم معهم اعتبروه قاطع طريق خارجًا على القانون.
وفى غيبة الوثائق الجازمة للأمر يقينًا؛ فإن هذا التساؤل سيظل مُثارًا حول حقيقة أفعاله، وعمّا إذا كان محركها الأساسى عائليّا خاصّا أمْ وطنيّا عامّا، وأرجح تداخُل الاثنين معًا "الخاص والعام"، سواء على صعيد تكوين شخصيته فى بيئته العائلية، أو الولوج من خلالها إلى العمل الوطنى ، وهما اللذان شكّلا سلوكياته وأفعاله، وكان الخاص محركه الأول الذى دلف منه إلى العام.
وحسبما تذكر الروايات الأكثر ترجيحًا أنه منذ طفولته، اشتهر بين أقرانه بالقوة والجسارة والشجاعة وشخصيته العنيدة، وهى السمات التى تُهيئ صاحبها لتبوء مكانة الفتونة بمنطق ذاك الزمان، فإذا كان فى الأحياء الشعبية أصبح فتوة الحى، ولكنه على صعيد العائلات والقرى أصبح فتوة العائلة.
ولكل منهما معايير فى السلوكيات تختلف نوعيّا، ونعتقد أن "أدهم" كان من هذا القسم الثانى، ويبدو أن هذه الجسارة كانت ميراثًا فى العائلة، إذ كان أحد أجداده الشيخ عبدالله الشرقاوى شيخ الأزهر الذى شارك الأعمال الوطنية زمن الحملة الفرنسية، ومن أجداده أيضًا الشيخ عبدالرحمن الشرقاوى الذى شارك مع آخرين فى عزل خورشيد باشا وتولية محمد على باشا، والعائلة برمتها كان لها دور مشهور فى العمل الوطنى أبًا عن جد.
وهذا يقودنا لتفنيد مقولة أنه كان لصّا أو قاطع طريق، وفى تقديرى أنه لم يكن كذلك، فاللصوصية لها سمات مختلفة تمامًا فى الظروف أبعد ما تكون عن انتماءاته الأسرية والعائلية الأقرب إلى أن تكون بورجوازية، وضمنها من حَملوا ألقاب الباشوية والبكوية والأفندية، وقد ألحقه والده بمدرسة خاصة فى طنطا، واشترى فيها أرضًا ومنزلًا، ثم نقله إلى مدرسة أخرى فى كفر الزيات، وإن لم يُكمل تعليمه للمراحل العليا، لكنه أجاد الفرنسية والإنجليزية، وطالما أن الأمر كذلك، فهل جعلته الظروف قاتلًا مجرمًا، أمْ وطنيّا ثائرًا؟.
لقد كانت الفتوة الوطنية بمنطق تلك الفترة هى الأعمال الفدائية وانتهاج النضال، وفى طليعة هؤلاء الشباب وطلاب المدارس التجهيزية والكليات من أتباع ومريدى الحزب الوطنى.
جرائم قتل
أعتقد أن أدهم الشرقاوى لم يكن بعيدًا عنهم، بل يمكن الجَزم بأنه منهم، وهؤلاء سيكون لهم دور كبير فى أحداث ثورة 1919، وكانت أخطر سنوات حياته هى السنوات الثلاث الأخيرة 1918-1921، وحسبما عبّرت عنها الصحف "دوخ فيها السُّلطات"، وتلك الفترة اختلطت فيها الرؤى بقوة بين الوطنية والتخوين، واعتبار من يتولى منصبًا متعاونًا مع المحتل وخائنًا.
وفى مثل هذه الأحوال يعتبر الشباب أنفسهم فدائيين بأرواحهم فى سبيل الوطن، وإن كانت منطلقات البداية فى ارتكابه أولى حوادث القتل، لم تكن بدوافع وطنية؛ وإنما عائلية انتقامًا ثأريّا لمقتل عَمّه الملقب "سبع شرقاوى"، الذى كان يَعتبره مَثله الأعلى، إثر خلافات على رى الأراضى بين أراضيهم ودائرة محمد سعيد باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية، الذى كان يُعتبر رمزًا سُلطويّا.
وفى تقديرى أن هذه كانت نقطة تحوُّل ستتعدى الخلاف الخاص إلى الاندماج فى الشأن العام والتحوُّل إلى مجابهة ذوى السُّلطة فى خضم الحركة الوطنية.
وهنا نشير لما ذكره الدكتور عاصم محروس الذى أرّخ لدور الطلبة فى ثورة 19، بأن الشباب وضمنهم الطلبة، كانوا أكثر حساسية وشفافية بالقضية الوطنية، لدرجة أنهم كانوا يتناسون أهدافهم الخاصة أمام الأهداف الوطنية فى الثورات المصرية، وكانت أساليبهم فى الكفاح متعددة الجوانب "فقد استخدموا كل أساليب العمل الجماهيرى، كما لجأوا إلى العنف والنضال السّرّى، ومن ذلك تَعرّض السُّلطان حسين كامل لمحاولتى اغتيال فى 8أبريل و9مايو 1915 تعبيرًا عن رفضهم للحماية البريطانية، وأخرى فى طنطا ورُوى أن "أدهم" كان ضمن شبانها.
وحتى محمد سعيد باشا نفسه قد تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال كانت إحداها فى كفر الزيات على يد محمد محمد خليفة التاجر بكفر الزيات، وكان عضوًا فى الجهاز السّرّى، ومرة أخرى بإلقاء اثنين من الطلبة قنبلة عليه عند كوبرى قصر النيل، ثم محاولة ثالثة فى سبتمبر 1919 فى الإسكندرية على يد الشيخ سيد من طلخا.
وكان من الصعوبة إثبات أى جريمة على أى فرد، إذ إن الرأى العام المصرى كان مع هذا النشاط السّرّى يؤيده ويرفض الكشف عنه، رُغم حدوثه وسط النهار وإغراء المكافآت المالية الضخمة لمن يقدم معلومات عن مرتكبى حوادث النشاط السّرّى لثورة 19.
قوائم اغتيالات
لتنفيذ هذه الاغتيالات كانت تُعد قوائم بالموظفين المراد اغتيالهم وتُسجل خطواتهم فى ذهابهم وعودتهم بين منازلهم ومكاتبهم بكل عناية، ويتم اختيار المكان والوقت المناسب للتنفيذ الذى يتولاه أربعة أو خمسة مسلحين لكل منهم مركزه وموقعه ودوره، وأحيانًا يتنكر المنفذ للاغتيال فى إحدى الصور، سواء فى صورة تاجر أو بائع صحف أو طباخ وما إلى ذلك، وقد تألفت عدة جماعات ومنها اليد السوداء التى كانت تبعث بتهديدات مباشرة حتى للوزراء إذا قبلوا التعاون مع الإنجليز.
وكان من أعضاء الجمعيات الوطنية والجهاز السّرّى أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى وحسن كامل الشيشينى وعبدالرحمن الرافعى ومصطفى القاياتى وعبدالرءوف العبد وعبداللطيف الصوفانى وعبدالحى كيرة وغيرهم عشرات ومئات وأعداد أكثر يصعب حصرها.
وكان منوطا بعبدالحى كيرة الاشتراك فى صُنع القنابل، ومنها التى ألقيت على يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء وإسماعيل سرى وزير الأشغال وتوفيق نسيم وحسين درويش وغيرهم، وبمناسبة محاولة اغتيال يوسف وهبة باشا؛ فإن الذى طلب القيام بها هو طالب كلية الطب عريان يوسف سعد، واجتمع مع أربعين طالبًا - ضمن الجهاز السّرّى للثورة - فى منزل محمد حلمى الجيار أكتوبر 1919 وأقسموا على كتمان سر الاجتماع، وفيه وقف عريان يوسف وأبدى استعداده لاغتياله ولأنه مسيحى ورئيس الوزراء وهبة باشا كذلك، من ثم يتم تفويت الفرصة وعدم استغلال الحادث فى إحداث فتنة طائفية.
ولا يمكننا التشكيك فى وطنية وإخلاص أولئك الشباب واعتبارهم مارقين، إنهم كانوا يضحون بأرواحهم فى سبيل الوطن، ومن المفارقات أن بعضهم أمثال أحمد ماهر والنقراشى والرافعى تولوا العمل الوزارى فى عهود لاحقة.
وختامًا؛ فإن "أدهم الشرقاوى" كان من أولئك الشباب الوطنى الذى خاض غمار العمل الوطنى بطريقته الخاصة، ولكن هناك اختلافًا جوهريًا بينهم وبينه، فأولئك كانت الاغتيالات السياسية لأهداف وطنية محددة، ولكن اختلطت هذه الأمور لدى "أدهم" بين الخاص والعام.
ففى الوقت الذى يقوم بالعدوان على رموز السُّلطة أمثال العُمَد وكبار المُلاك، بمن فيهم العمدة ابن عم والده، فيقوم بقتل أحد الخفراء أو مَن هو فى مشاجرة بعيدة عن الأمور الوطنية، وكأنما ألِفَ القتل سيكولوجيّا، أو أصبح شريدًا مطاردًا، فمضى فى طريق اللا عودة عن اقتراف الجرائم، سواء قتلًا أو سطوًا، كانت خاصة أو عامة، وهذا الذى صعّب تصنيفه وأدى إلى اختلاط الرؤية له تبعًا لنوعيات جرائمه، فإذا كانت سياسية، أو ذات أبعاد إنسانية فى توزيع حصيلة السطو على الفقراء، يصنفه تبعًا لذلك ثائرًا وطنيّا واجتماعيّا، وعلى العكس من ذلك يراه البعض الآخر قاطع طريق خطيرًا.
مع ملاحظة أن مسرح عملياته بين القرى أكثر اتساعًا مما كان عليه الحال فى المدن، وهذا ما أكسبه شهرة واسعة، فضلًا عن الروايات والمرويات والمبالغات التى صعدت به إلى درجة الأسطورة، مطاردًا هؤلاء وأولئك، مقتنعًا يقينًا أنه يؤدى عملًا وطنيّا، أو انتقامًا ثأريّا.
كل ما فى الأمر أن الآخرين ربما شارك أحدهم فى عملية أو عمليتين، ولكن كثرة العمليات التى قام بها أو شارك فيها أحاطته بحالة تتسع للخيال، وهذا يُفسر سعادة السُّلطات بقتله على يد محمد خليل أحد أفرادها، ونشر ذلك فى مختلف الصحف، بأنه مقتل الشقى الخطير.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة