رشدى الدقن
«كروم» قاهر حسن «طرطور»؟!
لم يبقَ منها سوى الشومة والنبوت.. وحكايات تتوارثها الأجيال عن الفتونة والفتوات.. حكايات مليئة بالشجن والخرافة والسياسة والجدعنة.
الفتونة كان لها شروط ومقاييس.. فالفتوة يجب أن يتمتع بعدة صفات، منها بُنيان قوى متين وشارب عريض ونبّوت غليظ.. شهم.. جرىء، ينصر الضعيف ولا يقبل الظلم أو الإهانة ويدافع عن الحق ويتحلى بالصدق والأمانة وعزة النفس.
"إبراهيم كروم" واحد من أشهَر فتوات مصر.. والده جاء من الوراق إلى بولاق أبوالعلا ليرعى الغنم وعاش فيها.. إبراهيم فى سن 17 سنة بدأ رحلته مع الفتونة.. وبعد أن كان يعمل فى رصف الطرُق مع الجيش الإنجليزى بات فتوة الحى بعد أن ضرب 20 رجلًا من رجال فتوة الحى "حسن طرطور".
اللعب بالعصا
كان "إبراهيم كروم" من أمهر من يلعب بالعصا على مستوى مصر، وكان نبّوته لا يفارقه، وكانت هوايته الرقص البلدى الذى كان دائمًا سببًا فى إثارة المشاكل مع الآخرين.. فعندما كان يرى زفة أو فرحًا أو يسمع طبلا بلديّا فى الشارع يسرع إليه ويوقفه ويعطى رئيس فرقة الموسيقى ما تيسر من البقشيش وتكون عصاه فى يده فيبدأ وصلة الرقص.
فى بعض الأحيان كان أصحاب الفرح يرفضون طلبه فيثور وينزل بعصاه على الموجودين.. وهكذا طارت شهرته كفتوة بارع فى استخدام العصا، وأصبح أهل الحى يهابونه ويحسبون له ألف حساب.
أسطورة "إبراهيم كروم" بدأت فى العام 1926، عندما كان قادمًا فى زفة من روض الفرج إلى بولاق، فاعترضها الفتوة "حسن طرطور" عند كوبرى أبوالعلا، وطلب إيقاف الزفة.
لكن كروم الذى اندمج فى وصلة رقص تجاهل الفتوة، وأمر باستكمال الزفة، وقرب وصولها إلى بولاق، هاجمها بالعصى 20 رجلًا من أتباع طرطور، واستطاع كروم أن ينتصر عليهم، واستأنفت الزفة مسيرتها إلى بيت العريس، ليعلن أهالى بولاق ولاءهم للفتوة الجديد. استطاع كروم أن يفرض سطوته على المنطقة سريعًا وضم إليه رجالًا كثيرين، وبدأ فرض الإتاوات، والاطاحة بكل من يتصدى له ولدرجة أن البوليس والإنجليز وقتها تجنبوا الاصطدام به وبرجاله.
من البداية للنهاية لم تكن السياسة بعيدة عن إبراهيم كروم.. الذى مع بداية العدوان الثلاثى عام 1956 هاجم مخازن سلاح تابعة لجماعة الإخوان الإرهابية وأخذ 156 رشاشًا سلمها للدولة للدفاع عن البلد.. وبدأ ينظم أهالى بولاق والسبتية استعدادًا لحدوث إنزال جنود كما حدث فى بورسعيد.. وتبرع بألف جنيه كاملة لتسليح الجيش، وهو مبلغ كبير بمقاييس الخمسينيات.
وبعد نجاح الرئيس عبدالناصر فى إتمام صفقة الأسلحة التشيكية 1955، وأعلن معارضته لحلف بغداد ومقاومته للاستعمار ومساعدة الحركات الوطنية فى نضالها ودوره الكبير فى "مؤتمر باندونج" وتأسيس حركة "عدم الانحياز".. هذا إلى جانب سياسته الداخلية.
وقتها نظم كروم مظاهرة كبيرة وذهب راكبًا فرسه وسط حشد كبير من أهالى بولاق يزيد على ثلاثة آلاف رجل إلى ميدان عابدين لتحية الرئيس "عبدالناصر" بعد عودته من مؤتمر باندونج، وظهرت اللافتة الأشهَر التى كتب عليها «إبراهيم كروم فتوة مصر يُحيى جمال عبدالناصر فتوة العالم»، وملأ مناطق واسعة من بولاق بلافتات عليها العبارة نفسها.
ومشاركة إبراهيم كروم فى تحية الرئيس "عبدالناصر" لها قصة طريفة أخرى، فقد ذهب كروم إلى صديقه صاحب السيرك إبراهيم الحلو، وطلب منه أسدًا من أسود السيرك أو فيلًا لكى يركبه ليستقبل به الرئيس جمال عبدالناصر فى أثناء عودته.. ولكن الحلو رفض خوفًا على الناس.
ومن المواقف الشهيرة لإبراهيم كروم.. أن استدعاه وزير الداخلية زكريا محيى الدين وطلب منه التوسط لإجراء صلح بين أكبر عائلتين بالمدبح، وهما عائلة الحاج زينهم الرواس والحاج محمد النواوى بعد أن دارت بينهما معركة كبيرة سقط فيها عدد كبير من الجرحى والقتلى واستمرت المشاجرات لأكثر من شهر.
وكانت علاقة إبراهيم كروم وطيدة بين العائلتين، وفعلًا تم الصلح وأحضرهم جميعًا إلى منطقة بولاق وأقام شادرًا عظيمًا، وحضر الصُّلح قيادات أمنية، وبدأ الصُّلح بتلاوة القرآن الكريم من الشيخين مصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوى، وأرسل له وزير الداخلية خطاب شُكر لجهوده فى حل النزاع.
انقطعت علاقة إبراهيم كروم بالسياسية حتى تولى السادات رئاسة الجمهورية فدعاه إبراهيم كروم لزيارة حى بولاق؛ حيث أقام له سرادقًا كبيرًا وذبح له عجلين ابتهاجًا بقدومه.
الحياة الشخصية للحاج إبراهيم كروم لم تقل إثارة عن حياته السياسية والفتونة.. فالرجل كان شخصية مثيرة للجدل بسبب أفعاله غير المتوقعة، التى برزت حين عقد قرانه على زوجته الثانية الممرضة.. أثناء حجزه بمستشفى قصر العينى القديم، وأصر على عمل زفة ضمت راقصات وفرقًا غنائية داخل أروقة المستشفى، ليتسبب فى فصل مديرها.
وفى إحدى المرّات لجأ النجم فريد شوقى إلى الحاج "إبراهيم"؛ لتمثيل أحد الأدوار بفيلم "فتوات الحسينية"، إلا أنه رفض بسبب أداء دور أحد صبيان فريد، وقال له إن جميع فتوات مصر صبيانه فكيف له أن يكون واحدًا من صبيانه بالفيلم المعروض عليه.
وفى عام 1963 أسدل الستار على حياة أشهَر فتوات عصره "إبراهيم كروم" عن عمر 54عامًا؛ لتصبح حياته أسطورة لن تتكرر، بعد أن وافته المنية وسط أحزان أهالى منطقته وفتوات عصره، لتشيد له جنازة حافلة حضرها كبار الشخصيات والمشايخ لتوديعه إلى مثواه الأخير.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة