الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشاديد.. وساسة؟!

 للوهلة الأولى لا يبدو أن رابطا قويّا يجمع بين الفتونة والسياسة. لكن التاريخ يدهشنا عندما يجمع بين سطوره تلك العلاقة الوطيدة التى جمعت بين المشاديد، فرسان استخدام النبّوت، ورجال المواجهات الدامية، وبين الساسة، الذين يجيدون انتهاز الفرص، وتوظيف مختلف أدوات القوة.



إذا كان رحيل الحملة الفرنسية بمثابة ميلاد جديد للشخصية المصرية؛ حيث أدرك المصريون حجم العُزلة التى عاشوها بعيدًا عن التطورات العالمية منذ الغزو العثمانى، الذى أدخل البلاد فى نفق مظلم من التخلف ونهب خيراتها، فكان من ضمن التأثيرات التى خلفها رحيل الحملة الفرنسية تكريس حضور الفتوات فى نسيج الحارة المصرية، فبَعد رحيل الحملة أصبح الفتوة هو المسيطر على الحارة.  وحتى بعد إعادة تكوين الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على، لم تنته سيطرة الفتوة، بل زادت، وأصبح الفتوة.. حامى الحارة وأحيانًا سيدها ومالكها.

مواجهة الاحتلال

جاء الاحتلال البريطانى عام 1882 ليمثل تحديًا جديدًا لمصر وشعبها، فهبُّوا للدفاع عن استقلال وطنهم، والمطالبة برحيل الاحتلال، وكانت الطبقات الشعبية فى مقدمة من انحازوا لخيار الاستقلال تحت زعامة الوفد وسعد زغلول، وبرز دور الفتوات فى مواجهة الاحتلال وتسببوا فى الكثير من الإزعاج لسُلطات الاحتلال.

وهو ما دفع الاحتلال إلى إعلان الحرب على سُلطة الفتوات، تم توجيه إهانات للفتوة كبير الحارة واعتباره مجرمًا وبلطجيّا، وتم وضع قانون البوليس القديم عام 1906، الذى تضمّن تجريم حمْل العصا، إلا أن ذلك لم يكن يعنى أن ينسى الفتوات دورهم الوطنى فى مقاومة الاحتلال.

 ولعل الدور الوطنى الذى لعبه الفتوات فى ثورة 1919 خير دليل على ذلك.

ويقدم الروائى العالمى نجيب محفوظ فى مذكراته العديد من الوقائع التاريخية التى تكشف جانبًا خفيّا من التاريخ الوطنى للفتوات، فيقول إن أكبر مقاومة واجهها الإنجليز خلال ثورة 1919 كانت من الفتوات، فأحيانًا كان الفتوات يحفرون فى الأرض حفرًا كبيرة للإيقاع بالسيارات العسكرية التابعة للجيش الإنجليزى.

ومن الوقائع الفريدة التى يرويها "محفوظ" وقد رآها بعينيه عندما كان يعيش فى بيت القاضى، أن الفتوات استولوا على قسم شرطة الجمّالية، بعدما نظموا تظاهرة كبيرة، ونجحوا فى تكوين أربع مجموعات تولت الهجوم على القسم والاستيلاء على ما به من أسلحة لدعم الثورة فى وجه الاحتلال.

استمر الكفاح الوطنى لكثير من الفتوات حتى بعد ثورة 1919، وتواصل لسنوات طويلة لاحقة إلى أن تحقق الجلاءُ.

ومن الحوادث الشهيرة التى يرويها تاريخُنا السياسى فى هذا الصدد أنه  عقب حادث اغتيال وزير المالية أمين عثمان عام 1944، كان لفتوة محرم بك “إسماعيل سيد أحمد" دورٌ مهم عندما أخفى الضابط محمد أنور السادات المتهم فى القضية داخل فيلته بالإسكندرية.

 فتوة آخر سار على النهج نفسه، وكان من أشهَر فتوات الإسكندرية، وهو المعلم  "أحمد النونو" فتوة باب سوق عمر باشا الملقب بـ"بعبع" الاحتلال البريطانى.

دعوات الاستقلال

برز دور الفتوات فى القرن العشرين فى العمل السياسى إلى حد كبير، وتحديدًا فى الانتخابات البرلمانية التى كانت ساحة التنافس الرئيسية بين الأحزاب السياسية المختلفة فى النصف الأول من القرن الماضى الذى شهد تجربة ليبرالية مهمة فى تاريخ التطور السياسى لمصر.

  وغالبًا ما كان الصراع الأساسى يدور بين حزب الوفد، حزب الأغلبية الشعبية، وبين أحزاب الأقلية التى كان معظمها يدور فى فلك القصر والاحتلال، وبالطبع كان القصر والمندوب السامى البريطانى يميلان إلى استبعاد حزب الوفد من معادلة السُّلطة، إمّا طمعًا فى الانفراد التام بالسُّلطة من جانب القصر وتحاشى مشاكسات الوفديين المدعومين بجماهيرية عريضة، أو تفاديًا من جانب سُلطات الاحتلال لدعوات الاستقلال التى كانت الشعار الأبرز لحزب الوفد وأنصاره.

وهكذا تلاقت إرادة القصر والاحتلال، للتحكم فى نتائج الانتخابات، وكان للفتوات بحُكم ما لديهم من حضور طاغ فى الشارع المصرى؛ وبخاصة فى القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، دورٌ بارز فى حسم نتائج المنافسة بين المرشحين.

 وتحوّل الفتوات تدريجيّا إلى ورقة رابحة بيَد المرشحين أنفسهم، الذين تباروا فى شراء ولاء الفتوات الأقوياء فى دوائرهم المختلفة حتى يضمن لهم ذلك العديد من الأصوات، التى تقرِّب وصولهم إلى مقاعد البرلمان، ومنها إلى الوزارة أحيانًا.

 لكن الأمر لم يقتصر فقط على شراء الولاءات، بل تخطى الأمر أحيانًا إلى الانتماءات السياسية لبعض هؤلاء الفتوات، فعدد غير قليل منهم اشتهر بانتماء سياسى فطرى لحزب الوفد، والغريب أن “الوفد” كان هو الحزب الذى قرّر عام 1936 إلغاء نظام الفتونة.

ومن أبرز الفتوات الذين ناصروا حزب “الوفد”، الفتوة "نجيب حيان" فتوة "المنشية القديمة" بمدينة المحلة، فقد اشتهر  بسبب قصته مع النحاس باشا رئيس حزب الوفد ورئيس وزراء مصر الأسبق، الذى كاد يتعرض لمؤامرة رسمها رجال القصر من أجل إحراجه وإفساد زيارته إلى المحلة لدعم ممثلى الحزب بالمدينة عام 1951.

 وكانت الخطة تقضى بالهجوم والاعتداء على موكب النحاس باشا لحظة نزوله من محطة القطار، لكن فتوات المنشية بقيادة المعلم حيان رفضوا أن يُهان النحاس باشا داخل مدينتهم، ونجحوا فى التصدى لهم.

كما أسرع المعلم "حيان" بتهريب النحاس باشا وإخفائه داخل منزل أحمد بك كامل أحد أقطاب حزب الوفد بالمحلة حتى تهدأ الأمور.

وقد اشتهر المعلم "نجيب حيان” بالجود والكرم؛ حيث كان يعمل تاجرًا بسوق الغلال وقام بتمهيد أرض واسعة داخل "حارته" التى تحمل اسمه.

وزرع تلك الأرض بأشجار كثيفة من النخيل، وذلك من أجل استقبال الضيوف الوافدين على مدينة المحلة بصحبة دوابهم للتسوُّق والتجارة، وكان يقدم لهم البلح واللبن ومن شدة إعجابهم به أطلقوا عليه "البلح الحيّانى".

 وقد أثار حادث وفاة المعلم "حيان" الذى صدمته سيارة مسرعة لغطا كبيرًا؛ حيث تردد أن الحادث كان مدبرًا، وقد بلغت شهرته بين أبناء المحلة حد أن أرسل الرئيس جمال عبدالناصر برقية عزاء فى وفاته عام 1958.

فى المقابل نجح حزب “الأحرار الدستوريين” الخصم العنيد للوفد فى استقطاب العديد من الفتوات لمناصرة وحماية مرشحيه، وتروى صفحات التاريخ حكايات متعددة عن توظيف الفتوات فى ساحة المنافسة الانتخابية، ومنها حكاية الفتوة "جليلة"، وهى واحدة من أبرز الفتوات النساء فى تاريخ مصر، وقد اشتهرت بالقوة والجرأة والدفاع عن الضعفاء.

وفى عام 1950، لعبت دورًا بارزًا فى معركة الانتخابات البرلمانية، فقد قام أحد أبناء الحى بترشيح نفسه أمام مرشح معروف من حزب الوفد، فتعصبت "جليلة" لابن حيّها وبدأت تقوم بحملة دعاية واسعة النطاق له.

وأثناء الحملة الانتخابية أدرك حزب الوفد أنه ينافس "جليلة" بعد تدخّلها لصالح ابن منطقتها، فأرسل المرشح الوفدى إليها وفدًا من أنصاره يحاولون كسبها إلى صفهم، لكنها رفضت ذلك وتمسكت بمساندة ابن حيّها فى الانتخابات، بل أخذت "جليلة" تهاجم المرشح الوفدى فى كل مكان يذهب إليه، وبكل الوسائل، حتى إن هذا العضو فى يوم الانتخابات طلب بنفسه الحماية منها فى البوليس، واضطر إلى أن يؤلف لجنة لمحاربة الدعاية التى كانت تقوم بها "جليلة" وأعوانها.

وكانت أولى الحملات المعنوية من مرشح الوفد للنيل من جليلة، هى التشنيع عليها، فأطلق أنصاره عليها لقب "سكسكة" فى محاولة للسخرية منها، بل إنهم راحوا يؤلفون شعرًا هجائيّا فيها بلغة ذلك العصر، فكانوا يرددون: "يا رب أهلك سكسكة فى حرب مُهلكة”.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق