الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الفتونة من.. الحسينية للكحكيين!!

 لم يمنح المؤرخون جماعات الفتوة حقها فى التسجيل، وبعض مؤرخى الحوليات التاريخية منحوهم بعض السطور فى الأحداث اليومية، مثلما فعل ابن الجوزى فى "المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم" وخلط بينهم وبين العيارين وقُطاع الطرُق، من دون أن يوضح الفارق بين قُطاع الطرُق العاديين وطوائف الفتوة.



ومع تراخى قبضة الدولة العثمانية على مصر فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، بدأ المماليك يعاودون السيطرة على الأوضاع فى البلاد، وعمّت الفوضى وكثر الهرج والمرج فى أنحاء مصر.

كان المماليك يكوّنون أحزابـًا وشيعـًا تتقاتل فيما بينها، فضلًا عن التعدى على الممتلكات والأحياء، وعدم الأمن مع غياب القانون والردع.

من هنا بدأت طائفة الفتوات تبرز مجددًا فى المجتمع، التى فى الحقيقة لم تغب إلا أنها بدأت تأخذ مكانتها وشرعيتها من الأهالى أنفسهم؛ لحماية الأحياء من الاعتداءات الخارجية، سواء من المماليك أو غيرهم من اللصوص وقُطاع الطرُق؛ حيث اتسم هؤلاء الفتوات فى تلك الفترة بمكارم الأخلاق والحرص على نصرة الضعيف والمظلوم.

بدأ دَور هؤلاء الفتوات يتجاوز كونهم حُماة للأحياء والشوارع والحارات إلى اشتراكهم فى المواقف الخطيرة التى تمس مصالح الشعب وفى المواقف الوطنية، وظهر ذلك جليـّا بالفعل فيما يرويه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى عن كثرة فرض الضرائب و"الفِردة" والإتاوات على الشعب من قِبَل المماليك فى أواخر عهدهم قبل قدوم الحملة الفرنسية على مصر، حتى ضاق الناس بذلك وهجروا أعمالهم.

وتعرّض الدكتور حسين مؤنس فى كتابه "عصر الفتوات"،   للدور البارز الذى لعبه الفتوات فى التصدى للحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وكيف تلاحم هؤلاء الفتوات مع صفوف الشعب المصرى فى التصدى للفرنسيين، وأظهروا مقاومة باسلة فى ثورتَى القاهرة الأولى والثانية.

ويشير المفكر على مبارك إلى أن قائد الحملة الفرنسية نابليون بونابرت كان يضيق كثيرًا بالشغب الذى يثيره هؤلاء الفتوات، الذين كان يطلق عليهم لقب "البطالين"، بل إنه كان فى كثير من الأحوال وعندما يضيق به الأمر، يصدر منشوراته إلى طوائف الشعب يناشدهم فيها عدم سماع كلام هؤلاء الحشاشين.

 وعندما بلغ بونابرت بجيوشه منطقة إمبابة فى طريقه إلى القاهرة، استنجد الأمراء المماليك بالعامة من الناس، بعد أن تخاذلت جنودهم، فخرج له "أولاد الحسينية" يتقدمهم الفتوات، ونازلوا الجيش الفرنسى بعصيّهم فحصدتهم مدافعه حصدًا. 

 

حى الفتونة

كان الحسينية حيـّا شديد الحساسية نظرًا للتقلبات الاقتصادية والسياسية منذ العصر المملوكى العثمانى، وأفراده كانوا عصب الأحياء، ومعظمهم ممن لا يعملون وصغار الحرفيين، وأطلق عليهم الفتوات الجدعان، واشتهروا بالمهارة فى الضرب وانقطعوا لحماية من استجار بهم، وكانوا فى الغالب أهل مروءة. 

وقد تحدّث الجبرتى عنهم فى سياق حديثه عن كفر الطماعين وكفر الزعار.

وقال إن بعض أمراء المماليك يستعينون بهم لحمايتهم ومساندتهم، وقد أطلق على هؤلاء الفتوات "المشاديد"، وعندهم السجن مروءة وشرف ويتفاخرون به، وربما كان هذا سببـًا فى ظهور التعبير المصرى الشهير "السجن للجدعان".

فتوات الحسينية قفزوا إلى المشهد أيضـًا عندما تظاهرت نساء حى "درب مصطفى" بالقرب من باب الشعرية فى آخر عهد المماليك ضد عمال عثمان بك البرديسى المرادى، الذين جاءوا لجمع إتاوات جديدة، وانهلن عليهم ضربـًا بالعُصى والمقشات، وسرن فى مظاهرة صاخبة وبأيديهن الدفوف يغنين "ايش تاخد من تفليسى.. يا برديسى".

وعندما شاهد فتوات الحسينية نساء "درب مصطفى"، اتقدت حماستهم وتصدّروا هم للأمر، وخرجوا فى جموع كبيرة واتجهوا إلى بيت القاضى، وطلبوا منه أن يتدخل عند البرديسى لوقف المظالم والإتاوات التى فرضها على الناس.

 وبعد تَدَخُّل القاضى وتحذيره من مغبة استمرار تلك السياسات الجائرة، أذعن البرديسى، وأصدر الأمر إلى عماله بأن يكفوا عن جمع الضرائب و"الفردات" التى فرضها على الناس.

ويحفل تاريخ فتوات زمان بالعديد من الأسماء اللامعة؛ وبخاصة هؤلاء الذين عُرِفوا فى أحيائهم بنصرة الضعيف ومساعدة المحتاج، والتصدى لظلم فتوات الأحياء الأخرى، ومن أبرزهم من أعلام فتوات الحسينية العطوف عتريس وحكورة، ومن أعلام حى الخليفة "كم العرى" و"الملط" و"يوسف بن ستهم".

 ومن أقطاب قلعة الكبش وطولون"الفولى"، ومن حى السيدة، "ممبوك" و"خليل بطيخة" و"الإن" - بكسر الألف- و"إئة"  وكان الأخير ضريرًا.

 يُضاف إلى هؤلاء "محمود الحكيم" فتوة حى الكحكيين بالقاهرة القديمة وشقيقه "عبده الحكيم"، و"عفيفى القرد" فتوة حى بولاق أبو العلا وصاحبه المعلم "أحمد الخشاب".

أمّا حى الدرّاسة فسيطر عليه المعلم "حسن كسلة"، كما سيطرت المعلمة "عزيزة الفحلة" وابنها محمد على حى المغربلين.

وفى أواخر القرن التاسع عشر، كانت القاهرة مناطق نفوذ لعدد من الفتوات، ففى حى الناصرية تنازع الحُكم ثلاثة فتوات، هم "أبو طاجن" وأحمد منصور وحسن الأسود.

 وتنازع النفوذ فى باب اللوق و"البلاقسة" ثلاثة آخرون هم "عبده الجياشى" و"فرج الزينى" و"مرجان السقا". وكان الحاج "حسن جاموس" يحكم "حى الحنفى"، وتحت يده ولى عهده "حافظ الهوارى". وتولى السيطرة على الحسينية "إبراهيم عطية" وخليفته، ونازعهما الحاج "محمد الطباخة".

وفى ناحية "المحجر" الحاج حسن الخشن. وفى "الحطّابة" ظهر "حنفى حلوف". وفى "قواديس" وباب الخَلق سطع نجم "محمود الفلكى"، وفى "باب السلاح" نجد المعلم عبدالغنى، وفى "العُطوف" كانت الكلمة الأعلى من نصيب "ابن وهدان"، وفى "الجمَّالية" ذاع صيت "أولاد منتهى" والمعلم "بدوى العلاف" وشقيقه على.

وهناك أيضـًا "على بيه"، أو على الحسنى فتوة السيدة زينب، الذى كان نموذجـًا للفتوة الأفندى بالبدلة وربطة العنق والطربوش وبوظيفته الحكومية "مفتش تموين بالجمالية". 

التغيرات

والمختلف فى سيرة على الحسنى كفتوة بخلاف الهيئة والوظيفة، أنه كان لاعبـًا فى منتخب مصر لكرة القدم وكابتن مصر فى  رياضة العدو عام 1928.

جاء دخوله عالم الفتونة بمحض الصدفة، عندما حاول عددٌ من بلطجية المذبح أن يفرضوا عليه وعلى رفاقِه إتاوة، فكان نصيبهم الضرب على يد "على بيه"، ليصبح بعد هذه الواقعة فتوة الفقراء ونصيرًا لهم. ويكاد يكون الفتوة الوحيد ذا السجل الأمنى الأبيض، بلا أى سابقة إجرامية.

وعلى يد فتوات مصر القديمة ظهرت فنون الخناق، وهو بحسب المؤرخ عبدالعزيز البشرى، فن مصرى قديم يكلف به أولاد البلد ويتباهون؛ إذ كان يعتبر ضربـًا من الفروسية، والسعيد من يذهب له فى الخناق صيتٌ وذكرٌ فى البلد.

وكان فى كل حى من أحياء القاهرة فتواته، وكان لفتوات كل حى زعيمٌ هو المتقدم فى البطولة عليهم، لا يُعصى أمره ولا يُخالَفُ حُكمه، وهو الذى يدعوهم إلى الصراع ويدبر لهم الخطط، ويقودهم فى المعارك الكبرى، فإذا كانت المعركة مما لا يرتفع إلى شأنه، عقد لواء السرية لمن يختاره ممن قبله من الفتوات.

ومن فتوات الإسكندرية، هناك إسماعيل سيد أحمد، فتوة محرم بك فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، والذى كان يُهرِّب فى سيارة والده السلاح للمقاومة الفلسطينية فى مهدها. 

ومن أشهَر فتوات الإسكندرية، يبرز اسم "النونو"، الذى عُثِرَ بين أوراقه، بعد وفاته، على خطاب شُكر عن دوره فى الحرب ضد إسرائيل عام 1948.

كان النونو أكثر الفتوات بأسـًا؛ خصوصًا أيام الاحتلال البريطانى لمصر، حتى إن أهله لقّبوه بـ"البعبع".

ومن الطرائف والملح التى تُحكى عن "النونو"- على سبيل التندر- أن بريطانيا العظمى كانت ترسل المؤن والعتاد لقواتها وللجيش المصرى وللنونو لتدرأ عن نفسها غضبه.

إذا كان بعض الفتوات عنوان الأمن، فبعضهم الآخر كان مكمن الخطر، فكان التحوُّل الفعلى فى سلوك الفتوات ضد الشعب مرتبطــًا ببدايات الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882، عندما تنبّه القادة الإنجليز لخطر هؤلاء وضرورة السيطرة عليهم وشراء ولائهم بالمال؛ لتجنب شرهم بل والاستفادة من سُلطتهم ونفوذهم بين طوائف الشعب.

هكذا بدأت شرعية من نوعٍ آخر تُعطى لهؤلاء الفتوات، ونُزِعَت منهم الشرعية الأصلية التى منحها لهم العامة.

ظلت أحياء مصر تعانى ظاهرة الفتوة وإتاوته وسُلطته الباطشة طوال فترة الاحتلال الإنجليزى.

الغريب أن بعض المجرمين والفتوات سعوا للحصول على الرعاية الأجنبية، لاستغلالها فى أنشطتهم والحصول على الحصانة فى مواجهة رجال البوليس المصرى، بموجب الامتيازات الممنوحة للأجانب. 

فى المقابل، حرصت بعض الدول مثل فرنسا، على منح بعض الفتوات رعايتها؛ لمزاحمة بريطانيا فى النفوذ داخل حوارى القاهرة؛ حتى إن فتوة حى المرجوشى تمتع بالرعاية الفرنسية، وكثيرًا ما تدخّل قنصل فرنسا فى مصر لضمان الإفراج عنه حين كان يُلقى البوليس القبض عليه لإتجاره فى المخدرات وغير ذلك من أنشطة إجرامية. 

كذلك نشطت أعمال البلطجية الأجانب، وتطورت تجارة المخدرات على يد هؤلاء وتزايدت أعمال القوادة من جانبهم، واستمر الحال كذلك حتى تم توقيع معاهدة مع الدول صاحبة الامتيازات لإلغائها.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق