خطوط مصر الحمراء فى ليبيا

د. أسامة السعيد
على مدَى التاريخ، لم تحاول مصرُ الخروجَ من حدودها إلا لحماية أمنها القومى، أو حماية مصالحها الحيوية، وقد أدرك المصريون وكل مَن حكموا البلادَ منذ عصور الفراعنة، حتى العصر الحديث أن المحيط الحيوى لمصر لا يقتصر على حدودها السياسية والجغرافية.
لكنه يضم دائرة مركزها مصر، ويمتد ليشمل أطراف تلك الدائرة الواسعة التى تصل إلى أطراف حلب الشمالية والضفاف الأوروبية للبحر المتوسط شمالًا، وإلى منابع النّيل ومضيق باب المندب جنوبًا، وضفاف الخليج العربى فى الجنوب الشرقى، بينما تمتد غربا لتشمل الأراضى الليبية حتى حدود الجزائر.
يَعرف كلُّ من يدرك أهمية حماية منظومة الأمن القومى أن أىَّ تغيرات فى تلك الأقاليم الحيوية تُعَد بمثابة جرس إنذار حقيقى يستوجب استنفارًا للأمن القومى المصرى، لذلك كان حكام مصر عبر الأزمان يسارعون إلى التصدى إلى أىّ تهديد قبل أن يصل إلى الحدود المصرية، التى باتت تمثل خط الدفاع الأخير أمام أى عدوان.
لذلك؛ فإن حماية الأمن القومى المصرى تتطلب يقظة وسرعة مبادرة للتعامل مع أىّ مصادر للخطر والتهديد فى مَهدها قبل أن تستفحل وتطرُق الحدود المصرية، التى بقيت راسخة وثابتة لتكون مصر هى أقدم دولة فى التاريخ تقوم على الحدود الثابتة نفسها.
هذا الإدراك الكبير لضرورة المبادرة فى حماية الأمن القومى المصرى، فرض على مصر عَبْر تاريخها الممتد امتلاك جيش قوى، محترف، وقادر على الردع وصد أىّ مصادر للتهديد.
ويمكن القول بكثير من الاطمئنان التاريخى، إن هناك علاقة طردية جمعت بين قوة الجيش المصرى، وبين القوة الشاملة للدولة، بحيث كانت قوة الجيش دعمًا للاستقرار الداخلى، والنمو الاقتصادى والاجتماعى على حد سواء.
هذه الحقائق يجب أن تكون واضحة لمن يريد أن يقرأ المواقف المصرية إزاء حماية أمنها القومى، واستباق التعامل مع مصادر التهديد قبل أن تطرُق أبوابَ البلاد، وتهدد الداخل المصرى.
لكن فى الوقت الذى عرفت فيه مصرُ الحروبَ الاستباقية والضربات الوقائية، إلّا أنها لم تكن يومًا دولة معتدية أو حاولت تجاوُز ضرورات حماية أمنها وسلامة أراضيها وحدودها.
وخلال التاريخ الحديث والمعاصر، الذى يبدأ من قدوم الحملة الفرنسية وتكوين الدولة الحديثة على يد محمد على باشا، لم يخرج الجيش المصرى سوى مرّات معدودة لتنفيذ مهام خارج حدوده، وبصورة ترتبط بتطورات المشهد السياسى فى المنطقة، أو ردّا على تهديدات محتملة، أو تحت مظلة الأمم المتحدة.

تدخّل مشروع
لعل كثيرًا من خصوم مصر وكارهى عودة الدور الإقليمى للقاهرة، يبادرون إلى التشكيك فى مشروعية التدخُّل المصرى فى ليبيا إذا ما استدعت الحاجة ذلك التدخّل، متناسين أن الدور المصرى الإقليمى والدولى التزم دومًا بالعديد من المحددات القانونية والسياسية والأخلاقية التى أضفت على الدور المصرى تقديرًا واسعًا حتى من جانب تلك القوى التى لا تريد لمصر التدخل واستعادة مكانتها الإقليمية.
وبالتالى فإن القيادة المصرية عندما تقرّر التدخل عسكريّا فى أزمة ما، فلا بُد أن الأمر قد حظى بدراسة وافية وشاملة، وأنه قد توافرت له أركان الضرورة والشرعية، بل استنفدت القاهرة كل الخيارات الممكنة، حتى لم يعد أمامها سوى التدخل العسكرى، وهو أقرب إلى التدخل الجراحى، الذى يمثل حلّا أخيرًا لعلاج خطر أكبر.
ويأتى التدخل المصرى فى ليبيا ليكون واحدًا من تلك التدخلات النادرة لتحرُّك القوات المسلحة المصرية- تاسع أقوى جيوش العالم- من حدودها استجابة لضرورات حماية الأمن القومى والمصالح المصرية فى المقام الأول، واستجابة لمتطلبات قانونية وسياسية، بل إنسانية أيضًا.
وتستند الشرعية المصرية للتدخل فى ليبيا على ثلاث قواعد راسخة، هى: الاعتبارات القانونية، واعتبارات الاستجابة لمطالب الكيانات الليبية الشرعية، والمتمثلة فى البرلمان الليبى المنتخب شعبيّا، والجيش الوطنى الذى يحظى باعتراف ومساندة البرلمان، إضافة إلى تأييد كل القبائل الليبية للموقف المصرى ومناشدتها القاهرة من أجل التدخل لحماية بلادهم من الاحتلال التركى.
وقبل هذا وبَعده، تبقى اعتبارات حماية الأمن القومى المصرى، هى البوصلة التى تحرّك القاهرة وتحكم خطواتها فى أىّ اتجاه.
وبدا احترام القيادة المصرية للاعتبارات القانونية ظاهرًا بوضوح فى الخطاب الذى ألقاه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى يونيو الماضى فى منطقة سيدى برانى لتفقد جاهزية القوات، وكانت الرسالة الأبرز فى هذا الصدد تأكيده على أن أىّ تدخّل مباشر من مصر باتت تتوافر له الشرعية الدولية سواء فى إطار ميثاق الأمم المتحدة "حق الدفاع عن النفس" أو بناء على السُّلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبى "مجلس النواب”.
مصر أقدم دولة فى التاريخ، وصاحبة الرصيد الحضارى والإنسانى الكبير، لا يمكن أن تتنصل لقواعد القانون الدولى، الذى حرصت دومًا على احترامه وحمايته، حتى فى أصعب الأزمات التى واجهتها، حتى فى الصراعات الساخنة كالحروب التى خاضتها منذ خرجت قواعد القانون الدولى الحديث إلى النور، فلن تجد مصر تتورط فى حرب خارج إطار الشرعية الدولية.
شرعية دولية
يؤكد ميثاقُ الأمم المتحدة فى مادته الحادية والخمسين، أنه يحق لأى دولة الدفاع عن نفسها فى حال وجود تهديدات عند حدودها، ويحق لأى دولة التدخل إذا طلب منها ذلك عبر القنوات الرسمية.
ويتيح هذا البند فى الجزء الأول منه لمصر بشكل مباشر ودون انتظار للتدخل إذا ما شعرت بتهديد أمنها القومى فى حالة وجود تهديد عند حدودها.
والواقع أن ما يجرى فى ليبيا ومنذ 2011 تجاوز فكرة التهديد عند الحدود، فقد امتد الخطر إلى الداخل المصرى نفسه، وقائمة العمليات الإرهابية التى تم تنفيذها فى الداخل المصرى، ولها ارتباطات بالداخل الليبى الذى بات مرعى للتنظيمات التكفيرية والميليشيات الإرهابية تطول ولا تنتهى، فقد تحوّل غرب ليبيا إلى ملاذ آمن للإرهابيين من داخل البلاد وخارجها؛ خصوصًا مع الامتداد الطويل لحدود ليبيا مع الصحراء الغربية فى مصر، التى تحمل مسألة أمنية معقدة للغاية.
مصر تستند إلى شرطين يتوفران للتدخل فى ليبيا: الدفاع عن النفس بعد استنفاد الوسائل السلمية، وطلب التدخل من سُلطة شرعية، والشرطان متوافران ويكفلان مشروعية التدخل المصرى.
ولا تقتصر المشروعية القانونية للتدخل المصرى فقط على النصوص الدولية وميثاق الأمم المتحدة، بل إنها تستمد مشروعيتها كذلك من العديد من المواثيق الإقليمية والاتفاقيات الثنائية، فليبيا جزءٌ من جامعة الدول العربية، وهناك اتفاقية دفاع مشترك بين الدول العربية، التى تُلزم الدول العربية بأن تدافع عن بعضها البعض ضد أى اجتياح أجنبى، والاجتياح التركى للأراضى الليبية نموذج لهذا الاجتياح غير المشروع.
وقد أكد مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية فى اجتماعه أواخر يونيو الماضى على رفضه للتدخلات الخارجية فى ليبيا، ودعمه للجهود المصرية لإنقاذ الوضع المتدهور فى ليبيا.
كما أن ليبيا مرتبطة باتفاقيات دفاع مشترك مع مصر وُقّعت فى عهد الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى، ورُغم رحيل القذافى ونظام حُكمه؛ فإن هذه الاتفاقيات لاتزال سارية المفعول طالما أن الدولتين محل الاتفاق لم تطلبا إلغاءها، ولم يثبت أن مصر أو ليبيا فى أىّ مرحلة قد طلبت أىّ منهما إلغاء تلك الاتفاقيات.
تفويض البرلمان
إذا كانت المشروعية القانونية للتدخل المصرى متوافرة بموجب المواثيق الدولية والعربية والثنائية؛ فإن ذلك التدخل يستمد مشروعية كبيرة أيضًا من الاعتبارات السياسية والشعبية، فهذا التدخل المصرى يحظى بدعم، بل باستدعاء من ثلاثة كيانات ليبية تتوافر لها الشرعية القانونية والسياسية، أولها يتجسد فى مطالبة البرلمان المنتخب، وهو كما أوضح الرئيس "السيسى" وتؤكد الحقائق - الكيان الوحيد المنتخب من جانب الشعب الليبى، وقد أقر اتفاق الصخيرات، الذى تستند إليه حكومة الوفاق، بسُلطة وصلاحيات ذلك البرلمان، بل إن الاتفاق يضعها فى مرتبة أعلى من الحكومة التى يتشدق الأتراك بالاعتراف الدولى بها.
وإذا كانت حكومة فايز السراج معترفًا بها دوليّا، فالبرلمان الليبى الذى يتخذ من طبرق مقرّا له معترفً به دوليّا كذلك.
وقد خوّل اتفاق الصخيرات لذلك البرلمان سُلطة منح الحكومة الثقة، وألزم الحكومة التقدم للبرلمان فى آجال زمنية محددة للحصول على ثقته، وقد تقدّم "السراج" مرّتين بحكومات لم تحظ بالثقة، فما كان من تلك الحكومة إلّا أن تمردت على إرادة الشعب الليبى والاتفاقات الدولية، وتجاوزت كل المُدد القانونية المحددة لها داخليّا وخارجيّا.
بل الأخطر أنها انتزعت لنفسها صلاحيات ليست لها، بل هى حق أصيل للبرلمان، ومنها توقيع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وبالتالى فإن كل أعمال حكومة الوفاق باطلة قانونيّا وسياسيّا. والاتفاقيات التى وقّعتها مع تركيا منعدمة الأثر قانونيّا، ويكون رئيس البرلمان الليبى المنتخب هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وفى أكثر من مناسبة أعلن البرلمان الليبى ورئيسه، المستشار "عقيلة صالح" عن دعوته لمصر والقوات المسلحة المصرية للتدخل حالما تستدعى الضرورة وحماية الأمن القومى للبلدين ضد أىّ احتلال أجنبى، والتصدى للوجود التركى غير المشروع على الأراضى الليبية، لما يمثله من تهديد مباشر لأمن البلدين.
وخلال مشاركته فى جلسة عامة للبرلمان المصرى، أكد "صالح" دعم البرلمان الليبى لأىّ تحركات مصرية تستهدف حماية الأمن القومى للبلدين والشعبين الشقيقين.
كما أصدر البرلمان الليبى فى 14يوليو الماضى، وعقب لقاء الرئيس "السيسى" مع زعماء القبائل الليبية بالقاهرة، بيانًا شديد الوضوح، جَدّد فيه موقفه الداعم لحق القوات المسلحة المصرية فى التدخل لحماية الأمن القومى الليبى والمصرى، إذا رأت هناك خطرًا داهمًا وشيكًا يطال أمن البلدين.
وأوضح مجلس النواب الليبى أن ذلك الموقف الداعم لشرعية التدخل المصرى، يأتى بسبب ما تتعرض له البلاد من تدخّل تركى سافر وانتهاك سيادة ليبيا بمباركة الميليشيات المسلحة المسيطرة على غرب البلاد وسُلطة الأمر الواقع الخاضعة لهم، ولما تمثله مصر من عمق استراتيجى لليبيا على كل الأصعدة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية على مَرّ التاريخ، ولما تمثله المخاطر الناجمة عن الاحتلال التركى من تهديد مباشر لبلادنا ودول الجوار فى مقدمتها مصر، التى لن تتوقف إلّا بتكاتف الجهود من دول الجوار العربى.
ترحيب عسكرى
ثانى الكيانات الشرعية الليبية المساندة للحق المصرى للتدخل، بل المنادية به، هو الجيش الوطنى الليبى، وهو القوات المسلحة الوحيدة التى تحظى بدعم ومساندة البرلمان المنتخب هناك، وهى القوات النظامية المكلفة من قِبَل البرلمان بمواجهة خطر الميليشيات الإرهابية التى تعتمد عليها حكومة السراج.
وقد كان قائد الجيش الوطنى الليبى، المشير "خليفة حفتر"، حاضرًا وداعمًا لكل الجهود المصرية الرامية لوقف الفوضى فى ليبيا، وربما كان آخرها إعلان القاهرة، الذى تضمّن مبادرة مصرية متكاملة لإحلال السلام والاستقرار فى ليبيا الشقيقة.
وأعرب الجيش الليبى أيضًا فى أكثر من مناسبة عن دعمه المطلق لأىّ تحركات مصرية تستهدف دعم جهوده فى تحرير الأراضى الليبية من سيطرة الميليشيات وقوات الاحتلال التركية.
وشدد الجيش الوطنى الليبى، على أن مصر تدرك خطورة التدخل التركى فى البلاد، مؤكدًا أن هدف تركيا هو السعى للسيطرة على الأراضى الليبية وتحقيق أهدافها الاقتصادية.
وقال مدير إدارة التوجيه المعنوى فى الجيش الليبى، خالد المحجوب، إن مصر هى الشريك الحقيقى لتحقيق الأمن فى ليبيا لا تركيا التى ترسل المرتزقة السوريين للسيطرة على العاصمة طرابلس وتحقيق أهدافها الاقتصادية.
وأضاف إن "ليبيا فى حاجة لدعم القوات المسلحة المصرية لطرد المستعمر التركى الذى يرغب فى إعادة العثمانية".
وأفاد رئيس أركان القوات البحرية بالجيش الليبى اللواء فرج المهدوى، بأن أى تدخّل عسكرى محتمل لمصر فى ليبيا مسموح ومُرَحَّب به، طالما أنها دولة جارة ليست لها أطماع استعمارية، وستساعد البلاد على التصدى للغزو التركى ومحاولات أنقرة احتلال ليبيا ونهب مقدراتها.
وأكد أن المسألة اليوم أصبحت قضية وجود وليست قضية حدود، والمستهدف من التواجُد التركى هو كل الدول العربية وليست ليبيا فقط.
تأييد شعبى
ثالث الكيانات الليبية الكبرى الشرعية المساندة للتدخل المصرى وأهمها على الإطلاق، فهى الشعب الليبى نفسه، ويُعبر عنه ويُجسد صوته القبائل الليبية العريقة، التى تمثل القوام الحقيقى للشعب الليبى عبر تاريخه، وقد أعربت تلك القبائل بأعلى تمثيل لها، وبحضور كل قيادات وزعماء تلك القبائل عن دعمها ومساندتها بكل السُّبُل للتدخل المصرى المشروع، من أجل إنقاذ الشعب الليبى الذى تُقسّم أراضيه، وتُنهَب ثرواته كل يوم من جانب الاحتلال التركى وحكومة السراج، والميليشيات الإرهابية المتواطئة معهما.
وربما لم تشهد ليبيا الشقيقة على مدى السنوات العشر الماضية مثل ذلك المشهد التاريخى، باجتماع أعلى تمثيل قبلى، فى مكان واحد وعلى قلب رجل واحد، مثلما شهدته فى لقاء زعماء القبائل الليبية مع الرئيس "عبدالفتاح السيسى" فى القاهرة يوم 14يوليو الماضى، فقد أعلنت القبائل الليبية تأييدها الكامل لمجلس النواب وللجيش الوطنى، ودعمها لدعوة مصر للتدخل لحماية الأمن القومى الوطنى والمصرى.
قال ممثل القبائل الليبية مخاطبًا الرئيس السيسى "السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس مصر قلب العروبة النابض.. باسم القبائل الليبية الشريفة نطالبكم بقوة لحماية ليبيا والحفاظ على سيادتها وثرواتها لصالح أبناء الشعب الليبى، وعاشت مصر قلب العروبة النابض.. تحيا مصر وليبيا".
وكان ذلك اللقاء هو الثانى بعد أقل من شهر؛ حيث التقى العديد من زعماء وقيادات القبائل الليبية مع الرئيس السيسى خلال تفقده للقوات بالمنطقة الغربية نهاية يونيو الماضى، ولم يكن لقاء سيدى برانى أقل حماسًا ووضوحًا من لقاء القاهرة، الذى شهد إجماعًا حقيقيّا لا يقبل أى تشكيك أن مواقف أعيان ومشايخ القبائل الليبية تعكس رغبة الشعب الليبى فى التصدى للغزو التركى لبلادهم.
حيث أجمعوا على اعتبار التدخل المصرى موقفًا عربيّا أيقظ المجتمع الدولى الذى لطالما غَضّ الطرف عن الأزمة التى تفاقمت بعد التدخل التركى الذى يغذى الإرهاب فى المنطقة بالعناصر المتطرفة والأسلحة.
الأمن القومى
إذا كانت كل الاعتبارات القانونية والسياسية والشعبية تؤكد بلا شك مشروعية التدخل المصرى فى ليبيا؛ فإن حماية الأمن القومى المصرى تأتى قبل وبعد كل تلك الاعتبارات، فمصر تحترم كل تعهداتها الدولية، ولم تتجاوزها حتى تجاه الدول التى تناصبها العداء، فما بالنا بالأشقاء؟!

لكن خلال السنوات الأخيرة تحوّلت الأراضى الليبية إلى بؤرة لتهديد الأمن القومى المصرى، وبعد التدخلات التركية الأخيرة تحوّل غرب ليبيا إلى ملاذ لإرهابيى العالم.
واضطرت القاهرة فى أكثر من مناسبة إلى التدخّل بشكل مباشر لحماية أمنها القومى المُهدد من الأراضى الليبية، فوجهت فى فبراير 2015 ضربة مُركزة لمعسكرات تنظيم داعش فى ليبيا، بعد إقدامه على إعدام 21 شابّا مصريّا مسيحيّا فى جريمة مروعة هزت وجدان العالم وقتها، لكنّ أحدًا لم يُحرك ساكنًا سوى القاهرة التى ثأرت لشبابها الأبرياء فورًا، ولم يذهب الرئيس السيسى إلى الكاتدرائية المرقسية لتقديم واجب العزاء فى شهداء الوطن، إلّا بعدما كان صقور القوات الجوية المصرية قد دكّوا معاقل التنظيم التكفيرى فى ليبيا. وإزاء تصاعُد الهجمات الإرهابية على الأراضى المصرية من ليبيا، بمشاركة تنظيمات إرهابية عدة تخطيطا وتنفيذًا، قامت مصر فى مايو 2017 مجددًا بتوجيه 6 ضربات مكثفة دمّرت المركز الرئيسى لمجلس شورى مجاهدى درنة، وذلك بعد التأكد من مشاركتهم فى تخطيط وتنفيذ الهجوم على حافلة لمواطنين مصريين خلال زيارتهم لأحد الأديرة بالمنيا، الأمر الذى أسفر عن استشهاد 29 مصريّا خلال الهجوم الإرهابى.
معسكرات التنظيمات الإرهابية فى مدينة “درنة” الليبية ، التى كانت المعقل الأخطر للإرهابيين المنتشرين فى الأراضى الليبية مستغلين حالة الفوضى والانقسام التى تسود البلاد.
وكان من أخطر الإرهابيين الذين استهدفوا الإضرار بمصر المتحصنين فى درنة الليبية، الإرهابى هشام عشماوى الذى خطط وأعد لأكثر من 14 عملية إرهابية خطيرة فى مصر، منها استهداف الكتيبة 101 التى أسفرت عن استشهاد 29 عام 2015 وحادث كمين كرم القواديس، ومحاولة اغتيال اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية الأسبق، وحادث الواحات الذى أسفر عن استشهاد 16 من رجال الشرطة، واستهداف دير الأنبا صموئيل بالمنيا الذى أسفر عن سقوط 29 شهيدًا، وخلية عرب شركس، وضلوعه فى تنفيذ الهجوم الإرهابى على نقطة حرس حدود "الفرافرة" واستشهاد جميع أفرادها.
واستطاع "عشماوى" التسلل إلى الأراضى الليبية؛ حيث أقام مع عناصر تنظيم "أنصار الشريعة" بمدينة أجدابيا، كما أسّس حركة "المرابطون" المنتمية لتنظيم القاعدة الإرهابى، ونجحت مصر فى تسلم "عشماوى" عقب القبض عليه فى درنة من قِبَل الجيش الوطنى الليبى، فى مايو 2019؛ لتعاد محاكمته ويتم تنفيذ القصاص العادل بحقه وإعدامه فى مايو 2020.
عشماوى لم يكن الإرهابى الوحيد الذى تحصّن فى ليبيا واستغل أوضاعها للتآمر ضد مصر وشعبها، فهناك المئات من شباب الجماعات الإرهابية وأنصار جماعة “الإخوان” الإرهابية ممن فرّوا من مصر عقب سقوط نظام “المرشد” وجدوا الملاذ الآمن لهم فى ليبيا.
كما قامت العديد من العناصر الليبية بالتسلل إلى مصر بدعم من قيادات التنظيمات الإرهابية هناك لتنفيذ عمليات على الأراضى المصرية، ومن بينها الإرهابى الليبى "عبدالرحيم المسمارى"، العقل المدبر لحادث الواحات، الذى تم تنفيذ حُكم الإعدام بحقه فى شهر يونيو الماضى.
هذه الحالات ليست سوى مجرد أمثلة لواقع أمنى خطير، وتهديدات حقيقية تنطلق من الأراضى الليبية، فإذا أضفنا إلى ذلك عمليات تهريب الأسلحة والممنوعات إلى الأراضى المصرية انطلاقًا من الأراضى الليبية، وكذلك توفير المأوَى والتمويل للعديد من الجماعات الإرهابية التى تستهدف مصر، فمن الممكن تصوُّر حجم الخطر الذى يمثله بقاء الأوضاع على ما هى عليه فى ليبيا؛ خصوصًا بعد التدخل التركى.
هذه الجحافل من الإرهابيين التى يحشدها إردوغان فى الأراضى الليبية، لن يكونوا مجرد ضيوف فى ليبيا، فلديهم مهمة محددة هى ضرب الجيش الوطنى الليبى، وتحقيق أهداف تركيا فى السيطرة على كل الأراضى الليبية، ومن بعدها التسلل إلى مصر، وتهديد حدودها الغربية هائلة الاتساع.
وبالتالى؛ فإن مصر عندما تتدخّل فى ليبيا فإنها تعمل على حماية أمنها القومى وأمن شعبها من تهديدات حقيقية بات من الصعب التغافل عن تصاعدها، أو الرهان على توافقات دولية لا تعرف سوى لغة المصالح وتقسيم الثروات.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة