الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

من طاعون المماليك.. للوباء الإسبانى

 على مَرّ العصور، شهدت مصر كما شهد العالم موجات من الأوبئة الفتاكة التى حصدت أرواح أبنائها.



 

وكان انتشار الأوبئة قديمـًا يأتى من خلال التجار والعمال والمهاجرين والحجاج والجنود المصابين بالأمراض الذين ينقلونها من مكان لآخر، كما هو الحال فى الطاعون الذى انتقل إلى مصر من خلال التجار إلى الموانئ والثغور، تقريبًا كل عام كان يضرب العالم وباء

 

قبل نحو 100 عام من انتشار فيروس "كورونا" المستجد "كوفيد- 19"، ظهرت الإنفلونزا الإسبانية التى اجتاحت العالم لمدة عامين بدءًا بعام 1918، وأصيب بها 500 مليون إنسان، توفى منهم ما بين 30 إلى 50 مليونـًا.

 

تفشت الإنفلونزا الإسبانية فى مصر خلال الحرب العالمية الأولى وحتى أثناء ثورة 1919، لدرجة أن شخصيات عالمية أصيبت بها، وتوفى بعضهم، مثل السير مارك سايكس، مهندس اتفاقية سايكس بيكو التى قسّمت البلاد العربية بين إنجلترا وفرنسا.

 

كما أصابت الإنفلونزا الإسبانية أيضًا روزفلت، وشُفى منها قبل أن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة. وفى مصر، ذهبت ضحيته ملك حفنى ناصف، الأديبة والرائدة فى الدفاع عن حقوق المرأة.

 

ويصف طبيب اسكتلندى، أقام فى مصر وقتها، المرض بالسرعة الفائقة التى تؤدى إلى التهاب رئوى شديد، وكانت تصيب فى الأغلب الشباب. ساعد على انتشار المرض تحرُّك قوات الحلفاء داخل مصر، التى تعدت مائة ألف مقاتل.

 

أجمع المؤرخون الأجانب على أن الإنفلونزا الإسبانية أثرت على مصر تأثيرًا كبيرًا، فأغلقت المدارس والجامعة ودُور اللهو والأسواق والمحاكم وأغلق الأزهر أبوابه وألغى الاحتفال بمولد النبى ومُنعت الجنازات.

 

وخلال الفترة بين 1914 و1918 أصاب المصريين عددٌ كبير من الأوبئة التى أودت بأرواح أعداد كبيرة، منها الحُمى الراجعة، ووباء التيفوس الذى أصاب 30 ألف مصرى.

 

ودرس مؤرخون أمريكيون وثائق مصلحة الصحة العامة المصرية وكذلك الصحف فى عام 1918، بالإضافة إلى الوثائق البريطانية، منهم المؤرخ الأمريكى الكبير أليس جولدبرج، وأظهرت هذه الوثائق أن انتشار الأوبئة المختلفة وارتفاع نسبة الوفيات راجعٌ إلى الضعف الشديد فى تغذية المصريين خلال نهاية الحرب، والذى صاحبه هزال وأنيميا. 

 

الكوليرا الهندية

 

فى الوقت نفسه حدث طاعون البقر، ما أدى إلى نقص الثروة الحيوانية، وانخفض إنتاج الخبز بسبب نقص الدقيق والحبوب.

 

كانت احتياجات الجيش الإنجليزى من الطعام تأتى من أستراليا ونيوزيلندا، ولكنها لم تكن تكفى، فكانوا يكملون احتياجاتهم من السوق المصرية. وأدى ذلك إلى زيادة النقص فى الغذاء، وزاد الموقف سوءًا اجتياح الجراد للأراضى المصرية الذى أكل جزءًا كبيرًا من المحصول.

 

وتضاعفت أسعار الطعام ونقص الدقيق، ما اضطر الحكومة لإيقاف تصديره واضطرت الحكومة إلى إنشاء هيئة مركزية لبيع وتوزيع الطعام. وأصبحت طوابير الخبز أمرًا عاديّا فى مصر.

 

وقدَّم دكتور ويلسون من مدرسة الطب المصرية تقريرًا لوزير المستعمرات ملنر، الذى جاء ليدرس أسباب الثورة المصرية. 

 

وحدثت شبه مجاعة فى مختلف أنحاء مصر، وهو ما أدى إلى غضب متصاعد بسبب الجوع والفقر والقهر وخطف الشباب ليعملوا مع الجيش، ثم الاستيلاء على الحيوانات بثمَن بخس؛ وبخاصة الجِمال التى استخدمها الجيش الإنجليزى فى النقل فى الصحراء.

 

ضربت الأوبئة مصر على فترات؛ حيث كانت أحيانـًا مَعبرًا لها من الشرق إلى الغرب.

 

أمّا وباء الكوليرا، فكان يأتى عادةً من الهند إلى مكة ثم السويس ثم الإسكندرية فأوروبا. فالوباء يرتبط بالمحددات الاجتماعية للصحة (مياه الشرب والصرف الصحى والبيئة والتعليم)، فالأمراض الوبائية عابرة للحدود والقارات والطبقات الاجتماعية. 

 

وكان وراء دخول الوباء لمصر إصابة أحد العاملين فى معسكر إنجليزى، ومعسكرات الإنجليز بها خليط من كل الجنسيات: هنود وأفارقة واسكتلنديون وأيرلنديون وعرب وإنجليز، وكان هناك تراخٍ فى فحص القادمين من الخارج وبخاصة الهند، على الحَجْر الصحى بالسويس، ما أدى إلى دخول المرض لمصر، وسُميت الكوليرا الهندية.

 

تسارعت الأحداث وتفشى المرض فى الشرقية والقليوبية والقاهرة بعد أقل من أسبوع من اكتشاف الحالة الأولى.

 

وصدرت تعليمات صحية "الزموا بيوتكم.. ممنوع منعـًا باتـًا السلام باليد.. ممنوع منعـًا باتـًا البصق على الأرض.. ممنوع استخدام سماعة التليفون العام.. بلغوا عن مرضاكم.. ممنوع التنقل من مكان لمكان".

 

لم تلقَ التحذيرات صدًى عند الناس، فزادت أعداد المصابين، وزادت الأماكن والمحافظات المنكوبة، فكان ضروريـّا صدور قرارات أكثر شدةً تنوعت بين تأجيل الدراسة وإغلاق دُور العبادة وصولًا لمنع الحج.

 

ولم تقلل القرارات أيضـًا من حجم انتشار الوباء، ما استلزم فى أكتوبر 1947 تشكيل غرفة عمليات بقيادة رئيس الوزراء النقراشى باشا ووزير الصحة نجيب إسكندر، وفى الاجتماع أعطى النقراشى وزير الصحة كل الصلاحيات السياسية والتنفيذية للقضاء على وباء الكوليرا.

 

فأصدر نجيب باشا قرارًا بعزل المرضى والمخالطين لهم وحظر التجوال بين المحافظات. 

 

وأمر نجيب إسكندر بفرض الشرطة والجيش سيطرتهما على كل مداخل ومخارج المدن والمحافظات، وطالب الشعب بضرورة التبليغ عن الحالات المصابة أو حتى المشكوك فيها أول 24 ساعة من معاناته رحمةً به وبأهله، ووصل الأمر إلى تفتيش البيوت.

 

أمّا فيما يتعلق بتجهيز المستشفيات لمقاومة الوباء، فقد قررت وزارة الصحة إلغاء العيادات الخارجية فى جميع المستشفيات منعـًا لانتشار الوباء بسبب ازدحام الجمهور فى هذه العيادات، وألغى وزير الصحة جميع إجازات الأطباء فى الوزارة.

 

وطلبت وزارة الصحة من وزارة المالية فتح اعتماد مبلغ 100 ألف جنيه، وقام النقراشى باشا برفع الاعتماد إلى نصف مليون جنيه.

 

وظلت الكوليرا تضرب بلدان العالم على مدار 150 عامـًا راح خلالها آلاف الضحايا حتى بعد اكتشاف المصل الواقى منها.

 

أمّا مصر فقد ضربتها الكوليرا فى تاريخها الحديث فى أعوام 1831 و1834 و1850 و1855 و1865 و1883 و1895 و1902 و1947.

 

وبقدر ما انعزلت مصر عن العالم بسبب وباء الكوليرا، كانت قرية القرين بمحافظة الشرقية أشد قسوة فى عزلتها، بعد أن أعلنتها الحكومة المصرية كبؤرة أولى للمرض، ومع ذلك نشرت مجلة "آخر ساعة" فى عددها الصادر يوم الأربعاء 8 أكتوبر عام 1947 تحقيقـًا للصحفى الشاب محمد حسنين هيكل، كان أشبه بتقرير اجتماعى أنثروبولوجى يرصد كل ملامح الحياة داخل القرية من تعاملها مع العزل والمرض والموت والإصرار على الحياة رُغم قسوة الأوضاع. 

 

كما رصد المعدن الحقيقى للمصريين وقت الأزمات وتعاونهم فى الخروج من المحن التى تمر بهم.

 

الوباء الأصفر

 

أمّا الطاعون، فقد كان من أخطر الأوبئة التى فتكت بصحة المصريين وحصدت أرواحهم.

 

ففى عام 1348 اجتاح الطاعون العالم، وطرَق أبواب مصر بعد 3 سنوات فى عصر دولة المماليك البحرية خلال فترة حُكم الملك الناصر حسن (الأولى)، وأسماه المصريون الوباء الأصفر أو الموت الأصفر، نسبةً لمكان قدومه من آسيا.

 

وفى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة»، يسجل جمال الدين أبو المحاسن بن تغرى بردى، أن بداية الطاعون فى شهر ربيع الآخر من سنة 833 هـ، فيقول:

 

«وفى هذا الشهر وقع الطاعون بإقليم البحيرة والغربية، بحيث إنه أُحصى من مات من أهل المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان». 

 

قضى الطاعون على نصف المماليك المرتبطين بإسماعيل بك المملوكى، وفقدت القاهرة وحدها أكثر من ستين ألفـًا من أبنائها فى الفترة الواقعة ما بين السادس والتاسع من إبريل عام 1791، بل إن إسماعيل ذاته كان مُجبَرًا على نقل الموتى إلى المغسلة السُّلطانية وتكفينهم على نفقة بيت المال وشَيّد مقابر لهم عُرفت بمقابر الغرباء. وأدى طاعون إسماعيل لتغيير الحكام فى اليوم الواحد أربع مرات.

 

ويؤكد المؤرخ الكبير الجبرتى أن الأهالى كانوا يحفرون حفرة بالقرب من مسجد أبى هريرة ويلقون الجثث فيها وكان يخرج من بيت الأمير أعدادٌ كبيرة.

 

قبل طاعون إسماعيل تمت تسمية طاعون 1729 بطاعون كاوى، وسبب التسمية أن فقيرًا من أصول إفريقية كان يجرى فى الحارات وينادى "كاوى كاوى"، وبعد ذلك رَمى نفسه فى النار من هول المرض فمات.

 

 وفى طاعون عام 1735 سُمى الطاعون "طاعون كو"، وسُمى أيضـًا العائق يأخذ على الرائق؛ حيث أطلق الناس أسماء على المرض تعبيرًا عن مرارتهم.

 

 وقد أكد علماء الحملة الفرنسية أن الطاعون لم يكن ينشأ فى مصر بل يأتى لها من الخارج من خلال المراكب والسفن التى تحط ركابها فى الإسكندرية.

 

يقول د. محمد بركات البيلى فى كتابه "الأزمات الاقتصادية والأوبئة فى مصر الإسلامية": إذا تتبعنا تلك الأوبئةَ التى عانتْها مصرُ الفاطمية، لوجدنا أن أولاها قد سارع إلى القاهرة، ولم يمضِ على بدء اختطاطها إلا عام وبضعة أشهُر.

 

ففى المحرم من سنة 360هـ اشتدَّ الوباء والأمراض بالقاهرة، وكأنه كان نذيرًا بما سجل بالعصر الفاطمى من أوبئة كثيرة، وجاء هذا الوباء فى أعقاب الغلاء المضطرم، الذى امتد بين عصرين، فبدأ فى أواخر العصر الإخشيدى، واستمر حتى مطلع العصر الفاطمى.

 

وفى خلافة العزيز بالله الفاطمى، وتحديدًا سنة 372هـ، حل وباءٌ شديد بمصر، أفنى خَلقًا كثيرًا لا يُحصى عددهم، واستمر هذا الوباء متفشيًا حتى العام التالى. 

 

وفى خلافة الحاكم بأمر الله، حل وباء فى سنة 398هـ، وقد أفنى هذا الوباء كثيرًا من أهل مصر، واستمر تفشِّيه حتى آخر سنة 399هـ، فتزايدت الأمراض، وعزَّت الأدوية، وكثر الموت.

 

وفى خلافة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمى، فشت الأمراض، وكثر الموت فى الناس فى سنة 415هـ، وانشغل الناس بما هم فيه من وباء عن الاحتفال بليلة الميلاد، وتواتر الوباء والموت، حتى لم يكن يخلو منزل واحد من عدد من المرضى.

 

وامتد الوباء إلى الواحات سنة 417هـ، فحل بأهلها جدرى عظيم، مات به خَلق كثير من أهلها، ثم ثار بأهل مصر رعاف عظيم فى العام نفسه، واختُتمت خلافة الظاهر بوباء آخر حل بمصر سنة 426هـ، لم يعش الظاهرُ بعده طويلًا؛ إذ توفى فى نصف شعبان سنة 427هـ.

 

أمّا فى خلافة المستنصر، فقد كثرت الأوبئة على نحو يتناسب مع كثرة الأزمات الاقتصادية فى عصره؛ ففى سنة 433هـ كان بمصر وباء توفى فيه جماعةٌ كبيرة من الناس، وفى سنة 446هـ أعقب الغلاء وباء عنيف، فكثر الموت فى الناس، ثم اشتد عنفه فى سنة 447هـ، وقيل: إن المواريث مال جزيل؛ لكثرة مَن توفى دون وريث.

 

واستمر الوباء فى سنة 448هـ على نحو لم يُعهد من قبل، وزاد فى عنفه أنه عَمَّ أمصار الشام والعراق ومصر، فكان المسافرون بين هذه الأمصار يزيدون الوباءَ تفشيًا بما ينقلونه من عدوَى. 

 

وفى سنة 455هـ تفشَّى طاعونٌ عظيم بمصر وقُراها، فكان يموت فى كل يوم ألفُ إنسان على مدى عشرة أشهُر، وامتدت هذه الموجة حتى عام 457هـ، التى أعقبها وباءٌ شديد، حتى تعطلت الأرض الزراعية؛ لكثرة من مات فيها. 

 

وشهدت الستينيات من القرن الخامس الهجرى موجَة أخرى من الوباء؛ ففى سنة 461 كثر الوخم والوباء بمصر، وابتُلى الناس بالتخم فى حلوقهم، فكانوا يموتون به. واشتد الوباء فى العام التالى بالقاهرة والفسطاط.

 

 وحدَثَ وباء مماثل فى سنة 465هـ.

 

وفى سنة 475هـ، امتد الطاعون من بغداد إلى مصر، فمات فيه خَلقٌ كثير.

 

وجاءت التسعينيات لتشهد موجة جديدة من الأوبئة، استمرت عدة سنوات، ففى سنة 490هـ حدث الوباء وامتد إلى العام التالى.

 

رياح سوداء

 

يضيف البيلى فى كتابه: لمّا حل القرن السادس الهجرى، شهدت الدولة الفاطمية قبل سقوطها عدة أوبئة، ففى سنة 515هـ هبَّت ريح سوداء على مصر، واستمرَّت ثلاثة أيام، فأهلكتْ خَلقًا كثيرًا من الناس والدواب والأنعام، ولا بُدّ أنها أتلفت المزروعات والمحاصيل.

 

 

 

 

وفى كتاب "جائحة الطاعون الثالثة فى مصر" يتناول د.عبدالواحد الوكيل مجموعة من الألغاز التى كانت تحيط بانتشار وانحسار وباء الطاعون فى مصر.

 

 درس الوكيل فى مصر وانجلترا وتخصص فى الأمراض الوبائية والطب الوقائى قبل أن يتولى وزارة الصحة عام 1942 فى وزارة مصطفى النحاس الباشا، وكانت طبيعة عمل علماء الأوبئة تشبه فى بعض ملامحها عمل المحققين الجنائيين الذين يبحثون دومـًا عن مفاتيح لفهم أحداث لا تشرح نفسها وتحتاج إلی إعادة ترتيب.

 

وتساءل كثير من العلماء عن أسباب الاختفاء الملحوظ للطاعون فى مصر لمدة نصف قرن (1844-1899)، بعدما كان يعتقد أنه مستوطن فيها. كما برز تساؤل عن سبب نجاة القاهرة، مقارنةً بباقى المدن المصرية، من وباء الطاعون الذى انتشر فى مصر كلها لمدة أكثر من ثلاثين عامـًا (1899-1932).

 

لحل هذا الألغاز الوبائية، رصد "الوكيل" كل العوامل المتشابكة التى لها أن تؤثر علی الوباء، فمن ناحية هناك حركة التجارة والإجراءات الصحية، ومن ناحية أخری هناك أيضـًا العوامل البيئية الخاصة بدورة حياة الحيوانات والحشرات الناقلة للطاعون.

 

فمنذ أن اكتشف العالم ألكسندر يرسين البكتيريا المسئولة عن مرض الطاعون عام 1894، انشغل علماء الأوبئة بدراسة حياة الفئران والبراغيث الحاملة للبكتيريا. ومن هنا ارتبط تاريخ الوباء فى مصر بتاريخ حيواناتها وحشراتها. فالتاريخ لا يصنعه البشر فقط!

 

يكمن السّرُّ، بحسب قول الوكيل، فى فهم طبيعة الوباء ودورة حياة المرض. 

 

الأوبئة مثل أمواج النهر التى تعلو مع الفيضان وتنخفض نتيجة لمؤثرات كثيرة، وقد تستمر الأمواج الصغيرة فى المجىء بعد الموجة الكبيرة بعقود أو حتی بقرون. 

 

فالطاعون يعيش علی البراغيث الحاملة له أينما وجدت، وهى كائنات طفيلية تعيش علی الفئران، وهى لا تحمل الطاعون فقط بل تمرض وتموت بسببه، وأيضـًا تطور أجهزتها المناعية مع مقاومة المرض والتعرض الدائم للعدوَی. 

 

هكذا إذن، يستمر المرض فى البقاء فى مناطق بعينها عبر أجيال من الفئران الحاملة للعدوَی، وهو مستوطن فى أماكن عدة أهمها آسيا الوسطی وإقليم يونان فى الصين.

 

يقول "الوكيل" إن هناك ثلاث جائحات كبری للطاعون فى التاريخ: الأول هو طاعون جستنيان فى القرن السادس الميلادى، عندما كانت مصر جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية، ويعتقد أن الوباء بدأ من مدينة الفَرَما (وهى مدينة مصرية قديمة تقع علی البحر المتوسط؛ حيث كانت مركزًا للتجارة، وهى إحدى المدن الثلاث لمنطقة بورسعيد القديمة طبقًا للحدود الإدارية لها).

 

 والثانى هو الموت العظيم أو الموت الأسود الذى اجتاح آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وحدثت أشد موجاته فتكـًا فى القرن الرابع عشر، والثالث هو الجائحة التى ضربت مصر عام 1899.

 

 

 

 

ماذا حدث عام 1844 ولماذا اختفى الطاعون لمدة نصف قرن بعد أن ظل يضرب مصر بلا هوادة طوال الـ60 عامـًا التى سبقت هذا الاختفاء؟

 

 يقول "الوكيل" إننا لا نعلم قطعـًا سبب اختفاء الطاعون من مصر لهذه الفترة الطويلة، ولكن هناك 3 عوامل قد تكون ساهمت فى ذلك. منها التغير الكبير الذى حدث فى طرُق التجارة العالمية مع اختراع السفن البخارية التى بدأت فى نقل البضائع والبريد بين الهند وخليج السويس منذ عام 1839. 

 

ومع إنشاء قناة السويس عام 1869، خفتت أهمية الطريق البرى التجارى الرئيسى، الذى كان يمر عبر الإمبراطورية العثمانية. 

 

 كما أن الإجراءات الصحية وأهمها الحَجْر الصحى كانت سببًا مُهمّا فيما جرى من تغير.

 

ورُغم أهمية هذه العوامل؛ فإن "الوكيل" لا يستطيع أن يجزم بأن هناك علاقة سببية بينها وبين اختفاء الطاعون. 

 

فهناك فرضية أخری تقول إن الطاعون كان بالفعل فى طور الانحسار الناتج عن تطور "مناعة القطيع" التى اكتسبتها أجيال الفئران فى مصر. 

 

تغيرات بيئية

 

قد تكون هذه العوامل عجّلت من قدوم شىء كان بالفعل يحدث بشكل "طبيعى،" أى بسبب تغيرات بيئية وبيولوجية.

 

يعتقد "الوكيل" قطعًا أن وباء 1899 هو بداية موجة طاعون جديدة وفدت علی مصر من خارجها، تحديدًا من إقليم يونان فى الصين عبر السفن الهندية، وهو بعيد كل البعد عن الطاعون الذى استوطن فيها لقرون طويلة من قبل. 

 

فهذا الطاعون المُستحدَث لا علاقة له بالعدوَی المحلية التى تناقلتها أجيال من الفئران المصرية منذ القرن الرابع عشر، وربما قبلها، وحتی أواخر عهد محمد على. 

 

أمّا فئران عام 1899؛ فإنها فقدت المناعة التى اكتسبتها الأجيال السابقة مع اختفاء المرض بين 1844 و1899. وذلك؛ لأن تطور واستمرار المناعة مشروط بالتعرض المتكرر للعدوَی ومقاومتها.

 

وفد الطاعون إلی مصر من بومباى (الهند) عام 1899، فظهر فى حى الهماميل بالإسكندرية. 

 

كانت أول 20 حالة كلهم من الرعايا اليونانيين العاملين فى بيع وتخزين البقالة أو من الذين يعيشون فى هذه الأحياء، وهى أكثر أماكن يوجد فيها الفئران حيث ترتفع إمكانية نشر العدوَی.

 

 ولذلك، لم يكن من المستغرَب أن تكون أولى حالات الإصابة فى بورسعيد أيضـًا من اليونانيين، الذين تخصصوا فى تجارة البقالة فى مصر. 

 

وفى الإسكندرية، انتقل الطاعون من الهماميل إلی كفر عشرى، القبارى، كرموس، المغاربة، بحرى، وسوق الكانتو، وكلها أحياء تكثر فيها محلات تخزين البضائع وشحنها وأيضـًا محال البقالة والخمور والأفران.  

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق