الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رسائل الموت بـالجمرة الخبيثة

 عشرات من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى لم يتذوقوا النوم على مدار عدة أيام بعد انفجارات 11 سبتمبر 2001.



 

تحقيقات ولقاءات واستجوابات لآلاف من المشتبه فى ضلوعهم فى هذا العمل الإجرامى الخطير، وهو إرسال شحنات كرسائل من "الجمرة الخبيثة"، لكن بلا جدوَى!

 

رصدت التحقيقات معلومة تقول إن أحد خاطفى طائرات سبتمبر كان يعالج من الإصابة بالجمرة الخبيثة قبل تنفيذ العملية بوقت قصير.

 

الوقت الآن ممتد بين عدة أسابيع بين شهرَى سبتمبر وأكتوبر 2001، عقب تفجير برجَى التجارة العالمى، واستهداف مواقع استراتيجية بالولايات المتحدة بهجمات طائرات.

 

العالم كله يحبس الأنفاس من هول الصدمة، والخوف، لكن الحقيقة أن أمريكا نفسها فى حال يُرثى لها؛ لأنها لا تزال تعانى من هجمات متعددة، لكن من نوع آخر، أثارت هلع العالم كله، كتطبيق ميدانى للحرب البيولوجية.

 

هجوم جرثومى

 

بلاغات متواترة من مكاتب نواب وشيوخ فى الكونجرس الأمريكى، وبعض رجال الإعلام، والشخصيات العامة، تؤكد تلقيهم أظرُف بريدية عند فتحها يظهر بها مسحوق الجمرة الخبيثة.

 

بالإضافة إلى العثور على جراثيم الجمرة فى مصعد يُستخدم لنقل الأمتعة والأثاث والمعدات فى مبنى مجلس الشيوخ، ما نتج عنه وفاة خمسة أشخاص، وأكثر من 17 إصابة بين موظفى البريد وآخرين ممن فتحوا الرسائل.

 

ومع تزايُد حالات الإصابة والتعرُّض لجراثيم الجمرة الخبيثة حذر جون بوتر، رئيس هيئة البريد الأمريكية، من أنه لا يمكن ضمان خلو رسائل البريد التى يتلقاها أى مواطن أمريكى من المرض، وحث الأمريكيين على اتخاذ الحذر الشديد عند فتح الخطابات البريدية.

 

وبدأت السُّلطات الطبية فى إجراء تحاليل لعينات مأخوذة من جميع العاملين بمركز "برينتود" ومركز آخر للبريد الجوى بالقرب من مطار بالتيمور واشنطن الدولى، ووفرت علاجًا بالمضادات الحيوية للحالات التى تحتاجه.

 

وناشد مدير الصحة بمدينة واشنطن نحو ثلاثة آلاف من العاملين مع الضحايا وموظفى مراكز البريد بالخضوع لفحص طبى شامل؛ للحصول على علاج وقائى مع المضادات الحيوية.

 

من جهة أخرى، قال مدير عام البريد جون بوتر «البريد وعماله أصبحوا هدفًا للارهابيين»، ولكنه وعَد بألّا تتأثر الخدمة البريدية التى تتعامل مع أكثر من 200 مليار رسالة بريدية سنويّا.

 

ورُغم أن مسئولى إدارة الرئيس جورج بوش لم يربطوا بين هجمات البريد وهجمات 11سبتمبر الإرهابية؛ فإن وزير الأمن الداخلى توم ريدج تحدّث عمّا وصفه «بحرب واحدة وجبهتين» يواجه فيها الموظفون والجنود على حد سواء الأخطار فى الداخل أو الخارج.

 

وسرعان ما أثبتت التحاليل المعملية أن بكتيريا الجمرة الخبيثة التى أرسلت إلى محطة (إن بى سى) فى نيويورك، وصحيفة (صن) الشعبية فى فلوريدا، ومجلس الشيوخ فى واشنطن، جاءت من المصدر نفسه.

 

كان من الطبيعى أن يوجَّه الاتهام فورًا إلى تنظيم القاعدة الذى كان مسئولًا عن هجمات الحادى عشر من سبتمبر، أو إلى أحد التنظيمات الإرهابية الأخرى.

 

ولكن التحريات المكثفة التى تلت حادثة الجمرة الخبيثة لم تستطع ربط الحادثة بهذه التنظيمات، بل قادت إلى مسار لم يكن متوقعًا على الإطلاق.

 

حيث اتجهت الشكوك تدريجيّا إلى مختبرات الجيش الأمريكى فى مدينة فورت ديتريك فى ولاية ميريلاند؛ حيث كانت هذه المختبرات تتعامل مع بكتيريا الجمرة الخبيثة فتقوم بزراعتها ودراستها، باعتبارها أحد أسلحة الحروب البيولوجية.

 

تأكدت الشكوك حول مختبرات الجيش الأمريكى، وبدأت الدائرة تضيق حتى تم توجيه الاتهام رسميّا إلى الدكتور ستيفين هاتفيل أحد العلماء الذين يعملون بمختبرات "فورت ديتريك"، وتم تفتيش منزله وتكثيف التحريات حوله، لكن التحريات لم تتمكن من إثبات تورط "هاتفيل" فى قضية خطابات الجمرة الخبيثة.

 

 ورفع قضية رد اعتبار ضد الحكومة الأمريكية وصدر حُكم بتبرئته فى 2008 وأقرّت وزارة العدل بدفع 4.6 مليون دولار تعويضًا له.

 

صاحب الرسائل

 

براءة الدكتور ستيفين هاتفيل لم تبعد الشبهات عن علماء مختبرات "فورت ديتريك"، بل أصبح عالمٌ آخر هو محور التحريات، وهو الدكتور بروس إيفينز، الذى تعاون فى البداية مع فريق التحريات والتحقيق فى البحث عن مصدر الرسائل الملوثة بالجمرة، دون أن يعرف أحد أنه هو منفذ الجريمة.

 

 وظل الدكتور إيفينز بعيدًا تمامًا عن الشكوك، حتى بدأ اللغز فى الوضوح تدريجيّا، بعدما كشفت التحريات تورطه فى جريمة الرسائل المفخخة، وتم توجيه اتهام رسمى له.

 

لكن ما الذى حوّل عالمًا إلى قاتل يهدد حياة العشرات بمرض لعين يفضى إلى الموت؟

 

 نعود إلى الوراء 18 عامًا، قضاها الدكتور إيفينز فى العمل بمختبرات "فورت ديتريك" على إنتاج لقاح للجمرة الخبيثة لصالح الجيش الأمريكى، وبالفعل تمكن من إنتاج اللقاح وتمت تجربته على الجنود، ولكن ظهرت له بعض المضاعفات فتوقف اعتماده.

 

 خسر "إيفينز" جهود سنين، وبدأ الشعور بالفشل يطارده، فقاده هذا الشعور إلى التفكير فى جريمة الرسائل المفخخة، حتى يلفت الانتباه حول أهمية عمله وأهمية إيجاد لقاح للجمرة الخبيثة.

 

تعاون عددٌ من العلماء والأطباء مع جهات التحقيق، وتم اكتشاف تطابُق الفصيلة الفريدة لبكتيريا الجمرة الخبيثة التى تم استخلاصها من الرسائل المفخخة، وبين الفصيلة التى وجدت فى مختبر الدكتور إيفينز، التى عمل بنفسه على تطويرها، ولم تكن متاحة لأحد سواه.

 

بالإضافة إلى إثبات التحريات أنه كان يمكث فى معمله حتى ساعات متأخرة خلال الأسابيع السابقة على البدء فى إرسال الرسائل المفخخة.

 

 كما خانه ذكاؤه وكتب رسالة لأحد أصدقائه استخدم فيها عبارات شبيهة بتلك العبارات المستخدمة فى الرسائل المفخخة، وغيرها من الشواهد والأدلة التى قادت إلى إثبات أن الأظرُف المستخدمة فى الرسائل المفخخة بيعت فى مكتب البريد الكائن فى "فورت ديتريك"؛ حيث يقع صندوق البريد الخاص بالدكتور إيفينز.

 

وعند مواجهته حاول تضليل المحققين بإعطائهم فصائل مختلفة للجمرة، وحاول إلصاق التهمة ببعض العاملين معه فى المختبرات نفسها.

 

ومع تضييق الخناق حوله أخذت حالة "إيفينز" النفسية فى التدهور واتجه إلى الإفراط فى تناوُل المسكنات والكحوليات والمخدرات، ما اضطره للخضوع للعلاج النفسى مرتين بالمستشفى، وصدرت عنه تصرفات غير طبيعية وصلت لحد تهديد زملائه فى العمل بالقتل، ورُغم ذلك؛ فإنه ظل مصممًا هو ومحاميه على إنكار التورط فى حادثة رسائل الجمرة الخبيثة القاتلة.

 

وبمجرد ما تم إخبار إيفينز أن السلطات بصدد توجيه اتهام رسمى له في قضية "رسائل الجمرة الخبيثة"، استيقظ المحققون على خبر انتحاره بتناول جرعة كبيرة من الأقراص المسكنة.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق