الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
فنون تحت سماء الأوبئة

فنون تحت سماء الأوبئة

  تُرى كيف تلقّى أبناء هذا الجيل التطورات السريعة المخيفة للغاية لتغلغل الوباء القاتل الذى حل علينا ضيفًا ثقيلا لا نكاد نراه أو نلمسه، لكنه موجود فى حياتنا بشكل مكثف؟



 

يهددنا الوباء دون أن يُخبرنا أنه جاء ليحقق خيالات المبدعين فى القرنين العشرين والواحد والعشرين فى مجالات متعددة، منها الرواية، والسينما، والدراما التليفزيونية، والفن التشكيلى فيما يسمى بالإبداع التحذيرى، أو التنبُئى.

 

كل ما حدث أن حياتنا تحولت إلى مصطلحات جديدة، إلى عدوَى وكمّامات، وأرقام للإصابة، وأخرى للموتى، وأماكن كثيرة كانت حتى الأمس القريب مكتظة بالحياة فصارت مظلمة تمامًا.

 

الأمر بالنسبة للقارئ، أو المُشاهد يختلف، فكل من قرأ الروايات المهمة، أو شاهد الأفلام الضخمة محليّا وعربيّا وعالميّا يعرف جيدًا كيف تكون الحياة تحت السماوات المسكونة الآن بكل أنواع الوباء. لفت الوباء أنظار كُتّاب بالغى الأهمية فى المكانة الإنسانية، ورُغم ذلك فإن كُتّابًا مهمين آخرين مرت عليهم الأمور فتجاهلوها تمامًا. 

 

وفى مصر بينما لم يلتفت أصحاب أقلام كبيرة إلى الوباء الذى حصد الأرواح من آلاف وملايين الأحياء الذين عاشوا معهم، مثل نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس وتوفيق الحكيم، ويوسف السباعى وغيرهم؛ فإن التجربة تركت أثرها لدى كاتبة مصرية كانت تكتب بالفرنسية هى أندريه شديد والتى كتبت واحدة من الروايات عن وباء كوليرا 1947، بالتفاصيل الدقيقة، علمًا أنه فى تلك الفترة كان محفوظ ينشر "زقاق المدق"، و"خان الخليلى"، ويكتب "السراب"، أمّا يوسف السباعى فنشر «السقا مات» و«أرض النفاق» والأمثلة كثيرة.

 

حصان طروادة

 

الوباء ظاهرة حياتية قديمة جدّا ارتبطت فى بعض الأحيان بالحروب الطويلة التى اشتعلت بين الشعوب منذ أيام حرب طروادة، حين قام جنود اليونان بمحاصرة المدينة شهورًا عديدة وتفشت الأمراض بين أهل طروادة، وبين جنود اليونان، حتى تفتق ذهن قائد من اليونان لابتكار فكرة الحصان الخشبى فتم فتح المدينة.

 

وسَجّل الشاعر اليونانى هوميروس بعض هذه الآثار فى ملحمته، "الإلياذة"، وأشار إلى أن الأوبئة جاءت أثناء الانتظار الطويل.

 

وعبر التاريخ البشرى كان الروائى الروسى نيكولاى جوجول أكثر وعيًا وهو يصور الحصار الذى قام به تراس بولبا حول المدينة التى يسكن فيها ابنه، الذى خان العهد فى رواية "تراس بولبا"، بينما لم يهتم نظيره تولستوى أن هناك وباءً أثناء كتابته ملحمته "الحرب والسلام".

 

وفى القرن التاسع عشر عبّر الأدباء عن معاناة البشر مع الأوبئة، مثلما فعلت الروائية البريطانية مارى شيلى فى رواية "الإنسان الأخير"، ومثلما كتب إدجار آلن بو قصته "الموت الأحمر". 

 

وفى الأدب العالمى خلال القرن العشرين، لدينا الكثير من الفائزين بجائزة نوبل كتبوا عن الوباء، ومنهم الألمانى توماس مان وروايته "الموت فى فينسيا"، ثم الفرنسى ألبير كامى فى رواية "الطاعون"، كما أن الكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز هو صاحب رواية "الحب فى زمن الكوليرا".

 

وفى عام 2010 نشر الفرنسى لوكليزيو روايته "زمن المرض المعلق"، وبالإضافة إلى هذه الأسماء ظهر أيضًا جان جيونو فى روايته "الفارس على السطح"، ومارسيل بانيول، وفيليب روث.

 

الأمر نفسه حدث فى السينما، فالكثير من هذه الأعمال تحول إلى أفلام سينمائية، ورُغم صعوبة هذه الأعمال فإن المخرجين الذين قدّموها لنا هم الأساتذة، ابتداءً من لوكينو فيسكونتى "الموت فى فينسيا"، ويوسف شاهين فى "اليوم السادس"، ثم توفيق صالح الذى أخرج "صراع الأبطال" عن رواية أمريكية.

 

الفيروس الآن فى بداية العَقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، موجود حولنا فى أنفاسنا، وأطعمتنا، وملابسنا، ومشاعرنا، وأفئدتنا، كأنه الرفيق الذى مَهما توارى فلا بُد من حضوره وظهوره من وقت لآخر، مثل كل الأشباح المخيفة وينثر الموت والرعب من حوله، كى يختفى مجددًا؛ ليعود حاملًا اسمًا جديدًا.

 

فكم تواجدت الأوبئة مع الكائنات الحية، وهددت استمرار الحياة على مدى التاريخ، ورُغم شراسة تلك الأوبئة؛ فإن الحياة لاتزال مستمرة.

 

وفى عصر السينما، حكت القصص ما حدث للإنسان من الأوبئة وما نتج عنها من المآسى الجماعية بين البشر والمخلوقات الحية، والكثيرون منا لم يعيشوا أوبئة التاريخ؛ خصوصًا فى القرن العشرين، إلا أننا شاهدنا السينما تعيد تجسيد تلك الظواهر، وكأننا كنا هناك، رُغم بشاعة الأمر، والكآبة التى تسببها الأفلام للمشاهدين.

 

سينما التحذير

 

نقلت السينما العالمية الكثير من الروايات التى تحدثت عن الأوبئة فى أفلام مثل "ساحرات ساليم" عن مسرحية لأرثر ميلر، و"الطاعون" عن رواية للكاتب الفرنسى ألبير كامى، و"الموت فى فينسيا " لتوماس مان.

 

 وفى مصر لم تكن الأوبئة التى عاشها الناس بالبشاعة نفسها كما حدث فى أوروبا، أو فى آسيا.

 

والغريب أن الأفلام التى قدمتها السينما أغلبها عن روايات عالمية، حتى رواية "اليوم السادس" للكاتبة آندريه شديد المكتوبة بالفرنسية، فتعتبر رواية فرنسية، رُغم أنها تدور حول وباء الكوليرا الذى أصاب المدن المصرية عام 1947.

 

 أمّا الفيلمان المأخوذان عن رواية "الطريق اللولبى" فهما "عاصفة على الريف " إخراج توجو مزراحى، عام 1941، ثم "صراع الأبطال" إخراج توفيق صالح 1963.

 

قدمت السينما العالمية صورًا متعددة للوباء، وإذا كان البعض يتصور أنها من أفلام الخيال السياسى، وهى نوع من الأفلام منبثقة عن أفلام التخيل العلمى؛ فإن هناك فرقًا ملحوظا بين أفلام الحرب الجرثومية التى يشنها البشر فى الدول المتقدمة من أجل السيطرة على العالم، أو هى حروب يشنها علماء غريبو الأطوار فى أفلام كثيرة.

 

وهذا النوع من الأعمال يسمى بسينما التحذير، بمعنى أنها تتضمن تحذيرات للقادة السياسيين: "إياكم والحروب الجرثومية".

 

 أمّا النوع الثانى من الأفلام فهو مأخوذ عن حكايات دارت فى التاريخ؛ خصوصًا فى البيئات البدائية، مثل مسرحية" ساحرات ساليم" التى تحولت إلى فيلم أكثر من مرة آخرها عام 1993، لكن رواية "الموت فى فينسيا" هى الأكثر أهمية لعدة أسباب، منها أن مؤلفها توماس مان حصل على جائزة نوبل فى الأدب عام 1929، وهى رواية قصيرة مستوحاة من حياة الموسيقار الألمانى جوستاف مالر، تحول فى الرواية إلى أديب يحمل اسم آشنباخ.

 

والسبب الثانى أن المخرج الإيطالى لوكينو فيسكونتى هو الذى حوّلها إلى فيلم عام 1969، من بطولة ديرك بوجارد وسيلفانا مانجانو، والفيلم أعاد الشخصية الرئيسية إلى موسيقار. وهو موجود فى مدينة البندقية (فينيسيا)، التى يذهب إليها فى رحلة، وتصاب المدينة فى أثناء وجوده بوباء يغلفه ضباب كثيف، وأجواء ترقب الموت، والخوف الممزوج بالصمت الذى يملأ الشوارع، ولذا فإن المصابيح مضاءة ليل نهار، ومن الصعب السيطرة على أى شىء إلى أن يموت آشنباخ وسط طرقات المدينة.

 

أمّا الفيلمان المأخوذان عن مصدر واحد دون أن يذكر ذلك أحد، الأول هو "عاصفة على الريف"، وهو يدور فى الريف المصرى، فى فترة إنتاجه عام1941، من إخراج توجو مزراحى..

 

الفيلم كما نرى يخرج عن الخط المعروف فى أفلام توجو مزراحى، سواء السينما الكوميدية، والتاريخية، أو الغنائية.

 

 ففى وسط الريف المصرى يصل طبيب شاب يجسده يوسف وهبى، تعانى القرية من مظاهر الفقر والتخلف الشديدة، ما يؤدى إلى انتشار مرض وبائى، وللأسف فإن الفيلم غير متوافر الآن.

 

لكن الرواية التى كتبها الأمريكى جان دو هارتوج باسم "الطريق الحلزونى أو اللولبى" كانت قد نشرت، فى الثلاثينيات، وأغلب الظن أن "مزراحى" قرأها، أو قرأ عنها.

 

لكن المؤكد بالنسبة لنا أن السينما الأمريكية أعادت إخراج الرواية مرة أخرى عام 1962، فى فيلم من إخراج روبرت موليجان، وبطولة روك هيدسون حول طبيب يذهب إلى غابات إفريقيا لمكافحة وباء يرفض أبناء المكان الاعتراف به، وللعلم فإن مكانة موليجان فى السينما الأمريكية مقاربة لمكانة توفيق صالح، فهو صاحب فيلم" مقتل طائر برى" الذى فاز فى العام نفسه بالعديد من جوائز الأوسكار، وقد استوحى ثلاثة كتاب مصريين القصة من الفيلم الأمريكى، وهم عز الدين ذو الفقار(منتج الفيلم) ومحمد أبو يوسف، وعبدالحى أديب، بينما كتب السيناريو المخرج توفيق صالح وذلك فى فيلم "صراع الأبطال"، الذى قام فيه شكرى سرحان بدور الطبيب الذى يتوصل إلى مصدر الوباء أنه طعام أهل القرية، ما يولد وباء الكوليرا الذى اجتاح مصر فى إحدى قرى الدلتا.

 

 ويصدم البطل أن المعسكر البريطانى يقدم نفاياه كطعام لسكان القرية، فيأتى الوباء ويرى الفيلم أن الوباء ينتشر بسبب خطأ بشرى، فالإقطاعى هو الذى يتفق مع رجال الاحتلال على بيع هذا الطعام إلى الناس، كما أنه يلعب دورًا فى منع مغادرة الأهالى لقريتهم.

 

الانتصار للحياة

 

 من المهم الإشارة إلى أن فيلم "من أحب" الذى أخرجته ماجدة عام 1965مأخوذ عن الفيلم الأمريكى "ذهب مع الريح" لفيكتور فلنمج 1939، وهو يدور فى إطار الحرب الأهلية التى استغرقت أكثر من خمس سنوات مثل الحرب العالمية الثانية، علمًا أن مصر لم تمر بحروب طويلة كهذه.

 

ولذا فإن أحداث الفيلم بدأت فى العام 1947، حين ذهب الرجال لمواجهة وباء الكوليرا، وامتدت الأحداث إلى حرب فلسطين حتى زمن العدوان الثلاثى عام 1956.

 

ولذا فإن وباء الكوليرا كان جزءًا من أحداث تمر بها أسرة ريفية تقع أثناءها المرأة فى حب رجل آخر يتزوج غيرها، ويترك المرأتين مسافرًا من وباء إلى حرب ثم أخرى.

 

وسوف يظل الوباء هذا يؤرق المصريين.. الغريب أننا لم نقرأ فى الأدب المصرى نصّا تدور أحداثه عن وباء ذلك العام، لكن من يقرأ الأعمال الروائية للكاتبة أندريه شديد- وهى من أصل لبنانى عاشت طويلا فى مصر تكتب الشعر والرواية والمسرحية بالفرنسية- فإن أعمالها دومًا كانت ترصد جوانب غير مألوفة من حياة المصريين، مثلما فعلت فى رواية " نوم الخلاص".

 

أمّا "اليوم السادس"، فكلها عن وباء الكوليرا، وهى رواية قصيرة بطلتها الجدة صديقة التى تعيش فى أحد أحياء القاهرة الفقيرة، المدينة تصاب بالكوليرا، وتنتقل العدوَى إلى حفيدها  بسبب إهماله أثناء سفرها لحضور عزاء فى مدينة أخرى. 

 

وأمام رغبتها فى إنقاذ الحفيد، فإنها تقل مركب صيد فوق نهر النيل متجهًا إلى البحر المتوسط، باعتبار أن الوباء ينحصر عند  الوصول إلى الماء المالح، وأن أمام المريض ستة أيام فقط كى تُكتب له النجاة، وقد انتصرت الكاتبة للحياة، وتم إنقاذ الطفل حسن فى نهاية الرواية.

 

أمّا الفيلم الذى أخرجه يوسف شاهين عام 1986، وقامت ببطولته داليدا، فقد انتصر فيه الموت، حين مات الصغير بين ذراعى جدته.

 

وقد أشرنا إلى أننا أمام رواية قصيرة؛ لأن السيناريو أضاف الكثير من الشخصيات، لم تكن فى الرواية، منها صاحب دار السينما المعحب بالراقص جين كيلى، وأيضًا الممثلة التى تعشق الشباب الصغير، وأيضًا لاعب القرود عوكا المعجب بالعجوز صديقة، يتتبعها فى رحلتها فوق النهر.

 

 وقد صوّر الفيلم الكوليرا مغلفة بضباب الوباء؛ حيث ينتشر الموت، ويتساقط المصريون وعلى رأسهم الأستاذ الذى يعتبره الطفل "حسن" رمزًا للحياة.. وعلى المستوى الشخص فإننى لن أغفر للفيلم أنه قتل الصغير "حسن" فى مَشهد حزين ما يجعلنى أنتصر للحياة مع الرواية.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق