ووقف الخلبوص على الأبواب
حياة البشر فى «فنجان بن»

رشدى الدقن
"سمّعنا يا ريس حنتيرة للصبح معاك السهيرة».. "وقّف يا ريس حنتيرة، فيه ناس قاعدة كتيرة.. ولا حد قال هات تعميرة ولا واحد شاى....آه اللى حيطلب يقعد ولا ما يطلبش يبعد". العبقرى صلاح جاهين.. لخص الحكاية فى القهاوى ببساطة.. لكن السؤال: متى ظهرت المقاهى؟.. وما هو دورها الحقيقى فى حياتنا؟
القهاوى فى مصر دورها يتجاوز كونها مجرد أماكن للتجمع وقضاء أوقات الفراغ وتناول المشروبات،- رُغم أن بدايتها كانت هكذا بالفعل، مجرد تجمعات- الآن القهاوى لاتزال مَركزًا للتجمعات التى تتلاقَى فيها مختلف طبقات الشعب المصرى فكريّا واجتماعيّا وأيضًا استمرت شاهدًا على التحولات التاريخية والأحداث المؤثرة فى التاريخ المصرى.
على سبيل المثال بعد ظهور الراديو، كان الناس يجتمعون بالقهاوى لسماع الخُطب السياسية الرسمية والأخبار، حيث كان يندر توافر ذلك فى بيوت الناس، وحدث الأمر نفسه مع دخول التليفزيون البلاد، وفى الوقت الحاضر، أصبحت القهاوى مركزًا لتجمُّع الشباب؛ لمشاهدة المباريات الرياضية المشفرة.
معظم المصريين يتعلقون بالقهاوى بشكل ملحوظ- تقدّر أرقام غير رسمية عدد القهاوى والكافيهات فى مصر بـ 1.5 مليون مقهى تقريبًا- ولكل شخص مقهاه المفضل الذى يكون موقعه فى العادة قرب سكنه أو مقر عمله، فالقهوة بالنسبة للمصريين المكان الذى يسع ما لا تسعه البيوت من ضجيج وصخب.
الحقيقة رُغم اجتهاد الكثيرين فى توثيق تاريخ المقاهى فى مصر؛ فإنه لا يوجد حتى الآن أى مَرجع تاريخى يدوّن تاريخ القهاوى بشكل متسلسل واضح.
القهوة سِرّا!
فى مصر يمكن أن نقول بصدق إن القهاوى هى تاريخ مصر غير المكتوب الذى يروى تاريخ البشر.. فى البداية واجهت القهوة- كمَكان وكمشروب- مطاردة السُّلطة وعنفها... وبدأت القهاوى فى الظهور بعد قصة طريفة حدثت فى بدايات القرن السادس عشر الميلادى، حيث تم استيراد أول شحنة من البن اليَمنى، وأثار هذا جدلًا فقهيّا وفكريّا واسعًا حول شرعية تناول مشروب القهوة، فكان الناس يشربون القهوة سرّا خوفًا من تقديمهم للمحاكمة فى مكان أطلق عليه اسم "القهوة" نسبة إلى القهوة كمشروب.
وبعد التصريح بشرب القهوة فى العَلن أخذت القهاوى، شكل مبنَى بسيط به بعض المنصات الخشبية لإعداد المشروبات كما أنها كانت تفرش بالحصير والكليم. القهاوى فى الأصل- إذن- كانت مكانًا للقاء الصحبة خارج البيوت؛ لأن بيوت الشرق عمومًا لها خصوصيتها وحُرمتها، ثم تطور الأمر فأصبحت مكانًا للتسلية والمسامرات والمناسبات، ومن ثم واجهت القهوة كمكان ما واجهته كمشروب، حيث اعتبرت ألعاب التسلية بالقهوة كالنّرد والشطرنج من المحرمات، فضلًا عن الدومينو والطاولة والكوتشينة فيما بعد، حيث ارتبطت فى أذهان البعض بلعب القمار والرهان والحظ.
وعندما نبحث عن وصف دقيق يمكن أن يجعلنا نتصور شكل القهاوى قديمًا، لن نجد أفضل مما كتبه المستشرق الإنجليزى «إدوارد وليم لين» الذى زار القاهرة وعاش بها فى مطلع القرن التاسع عشر، ودوَّن ما رآه فى كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم»، حيث يقول: "إن القاهرة كان بها أكثر من ألف مقهى، والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عُقود، ويقوم على طول الواجهة ما عدا المدخل مصطبة من الحَجَر تُفرش بالحُصر، وفى داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة، ويرتاده أفراد الطبقة السُّفلى والتجار، وتزدحم بهم عصرًا ومساءً، ويفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية". ومن الجوانب المهمة التى يذكرها المؤرخ الإنجليزى فى الكتاب.. هو غناء النساء فى القهاوى، وكان يُطلق عليهن «العوالم». إذ يقول عنهن: "وقد سمعت أشهر عوالم القاهرة، فأطربتنى أغانيهن، بل وأستطيع أن أضيف بحق: ومن أى موسيقى أخرى تمتعت بها، ويخطئ من يخلط بين العوالم والغوازى اللاتى ينتسبن إلى بعض القبائل التى احترفت نساؤهن الرقص، وكن يدرن فى الموالد، وتستضيفهن بعض المقاهى بالأزبكية". وفى رحلة البحث نجد فى كتاب «وصف مصر» الذى أعدّه علماء الحملة الفرنسية حديثًا عن المقاهى تضمن معلومات إحصائية، وهى: "مدينة القاهرة كانت تضم نحو 1200 مقهى بخلاف قهاوى مصر القديمة وبولاق، إذ تضم مصر القديمة 50 مقهى، أمّا بولاق فيبلغ تعداد مقاهيها المائة، وليس فى هذه المبانى أثاثات سوى بعض المناضد الخشبية، وليس ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية، فقط منصات خشبية تشكل نوعًا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى، وكذلك بعض الحُصر من سعف النخيل، أو أبسطة خشنة الذوق فى المقاهى الأكثر فخامة".
من الوصف السابق يمكن أن نَعرف أن القهاوى قديمًا كانت تشبه إلى حد كبير بعض المقاهى الصغيرة التى لاتزال موجودة حتى اليوم فى قرى الصعيد، ولايزال مقهى الفيشاوى العريق بالقاهرة، وبعض قهاوى القاهرة الفاطمية تحتفظ بدِكَك خشبية عريضة تتسع الواحدة منها لجلوس خمسة أو ستة أشخاص متجاورين وتحمل الدّكة الموجودة فى مقهى الفيشاوى تاريخ صناعتها الذى يعود لعام 1910.
عقاب الدخان!
لم يكن الدخان أو "الشيشة" من ضمن ما يُقدَّم فى القهوة، فلم يُعرف هو الآخر حتى القرن الحادى عشر الهجرى. ويؤكد لنا المؤرخ "الإسحاقى" أن الدخان ظهر عام 1012هـ، إلّا أن مشكلته كانت أكثر تعقيدًا من القهوة؛ لتمسك كثير من فقهاء المسلمين بتحريمه، وكثيرًا ما كان يُطارَد مدخنوه. فيَذكر لنا "الجبرتى" فى تاريخه، وتحديدًا فى حوادث سنة 1156هـ أن الوالى العثمانى أصدر أمرًا بمنع تعاطى الدخان فى الشوارع وعلى أبواب البيوت، ونزل بصحبة الأغا وشدد بالإنكار والعقاب على من يفعل ذلك. وقتها كانت الشيشة بحسب ما وصفه "كلوت بك" رائد مدرسة الطب المصرية فى عهد محمد على فى كتابه "لمحة عامة عن مصر" تتألف من أجزاء، وهى الفم والأنبوبة والجوزة، وهو قريب الشبه بالغليون.. ووقتها كان اسمها "الشبك"، ثم ظهرت الشيشة بشكلها الحالى وتعنى الزجاج فى اللغة الفارسية.
منع الوالى العثمانى فى البداية شرب الدخان فى بَرّ مصر، وهدد بإعدام من يشربه، وهدد بالحكم بـ"خوزقة" شاربى القهوة والدخان، وانتهى الأمر بأن أدمن هو نفسه الدخان!. ويَذكر المؤرخون عن تاريخ القهاوى أن تطورًا كبيرًا حدث فى شكلها بعد قدوم الحملة الفرنسية للقاهرة، فقد عرف الناس المقاهى الإفرنجية التى نشأت على يد الجنود الفرنسيين حينما افتتحوا ملهى «كيجولى» بالأزبكية، وكانت تلك القهاوى أماكن مغلقة اشتهرت بالرقص، ويقف على بابها شخص يسمح بدخول الزبائن يُدعى بـ"الخلبوص".
" الخلبوص" لم يكن هذا دوره فقط، بل كان أيضًا يصطحب الراقصات وينظم ظهورهن حسب الدور للرقص للزبائن.. ومن أشهر هذه الرقصات رقصة "النحلة".. وكانت الغازية تؤدى هذه الرقصة على أنغام الموسيقى الصاخبة التى تصاحب الزار وهى تتلوى كالأفعَى من لسع النحل الموهوم، وهى تغنى "النحل يا ناس حوشوه".
والطريف أن محمد على باشا أمر بمنع هذه الرقصة من قهاوى القاهرة، وكان فرمان المنع هو أول قرار بالمصادرة والحظر فى تاريخ مصر فى العصر الحديث. وشهدت قهاوى وسط البلد أكبر نهضة فنية ولعبت دورًا فى الثقافة المصرية، وارتاده المثقفون والشعراء. وكان الرقص من الفنون التى تقدم فى القهاوى بالإسكندرية مرورًا بالدلتا حتى القاهرة، من خلال الغوازى والعوالم، والفرق بينهما فى درجة الاحتشام والثقافة، فالعالمة كانت تسلك سلوكًا أكثر وقارًا حتى فى العُرى، وهى تتميز بأن لها عِلمًا بالموسيقى والألحان والعَزف على العود، وأحيانًا كانت تحفظ العالمة بعض القصائد والأشعار التى تقوم بغنائها إطرابًا للمستمعين، فضلًا عن الرقص طبعًا. ومن القهاوى التى شهدت رقصات الغوازى، ولاتزال باقية حتى الآن قهوة "خمسة باب"، وسُميت هذه القهوة باسم قهوة الحُرية فيما بعد ولاتزال فى نفس مكانها بباب اللوق. وشهدت مقاهى القاهرة انطلاقة العديد من المغنين، فقد بدأ منها بعض شيوخ الغناء العربى، ومن أشهرهم «عبده الحامولى» الذى كان يُغنى فى مقهى «عثمان» بحى الأزبكية.
السيرة الشعبية
لم تخلُ القهاوى من فن من الفنون السائدة وقتئذٍ، وهى: السّيَر الشعبية التى يرويها شاعر الربابة، والرقص والغناء، وألعاب خيال الظل وفنون الأدباتية التى كانت تقدم بأسلوب زجلى. وكان بيرم التونسى أول من جعل منها فنّا مكتوبًا فى عام 1924، ونقل هذا الفن إلى الغناء، وغنت له سيدة الغناء العربى أم كلثوم "الأولة فى الغرام والحب شبكونى، والثانية بالامتثال والصبر أمرونى، والثالثة من غير معاد راحوا وفاتونى"، فى حديقة الأزبكية سنة 1947، ولحنها الشيخ زكريا أحمد.
ومن الفنون التى كانت معروفة فى القهاوى "فن القافية"، وهى مباراة كلامية بين شخصين، يتميزان بخفة الظل وسرعة البديهة وطلاقة اللسان والقفشة الساخرة، يقول الأول كلامًا لاذعًا فى وصف الثانى، فيرد الثانى عليه بكلمة "اشمعنى"، فيرد الأول عليه ردّا ساخرًا....، وهكذا، إلى أن يفحم أحدهما الآخر، وسط ضحكات وقهقهات رواد القهوة. وسُميت بعض قهاوى القاهرة بأسماء خاصة تدل على نشاطها أو طبيعة روادها، فكانت قهوة فى شارع الأزهر تسمى قهوة "أفندية"، مثلت التمازُج بين الأفندية من أصحاب الياقات البيضاء والمشايخ سابقًا، وقهوة "البورصة"، وهى خاصة بالتجار والمضاربين فى بورصة القطن، وفيها كانت تدار حركة الأموال والأسهم، كما وجدت قهاوى بأسماء أصحابها كالفيشاوى و"ينى" و"ريكس" و"عبدالله" وغيرها. لكن أغرب هذه القهاوى كانت توجد فى حارة حلقوم الجَمل بالأزهر، وعرفت بصراع الديوك الهندية، وهو فن يشبه مصارعة الثيران فى إسبانيا، ونطاح الكباش بشمال إفريقيا والشام، ونتيجة لكثرة المشاحنات والحوادث بين المتراهنين وأصحاب هذه الديوك، منعت الحكومة المصرية صراع الديوك بالقهاوى.
وعلى مقربة من الموسكى، كان يوجد مقهى "القزاز"، الذى كان يرتاده عدد كبير من أهل الريف، يجلسون فيه ويتأملون النساء القاهريات المحجبات بالبراقع البيضاء والسوداء، أثناء اتجاههن لشراء حوائجهن من أكبر شوارع القاهرة التجارية فى ذلك الوقت. وكان يوجد فى حى السيدة زينب، مقهى يُطلق عليه اسم "المضحكخانة"، ويشترط لدخول مجلسه وضع رسالة فى التنكيت، وإذا حازت قبولًا عند صاحب المقهى، ضم مقدمها إلى مجلس النادى، وقد جمع آنذاك، الشيخ حسن الآلاتى كثيرًا من نوادر المقهى فى كتاب. وشهدت أدوات قهاوى القاهرة تطورًا على مَرّ الزمان، ففى بداية القرن التاسع عشر كانت القهوة تقدم فى «بكرج»، أى غلاية القهوة الموضوعة على جَمر فى وعاء من الفضة أو النحاس يسمى «عازقى»، ويُعلق هذا الوعاء فى ثلاث سلاسل، ويُقدم الخادم القهوة ممسكًا أسفل الطرف بين الإبهام والسبابة، وعندما يتناول الفنجان والطرف يستعمل كلتا يديه واضعًا شماله تحت يمينه.
وكانت القهوة يُضاف إليها أحيانًا الحبهان أو المستكة أو العنبر للأغنياء، أمّا اليوم فالقهوة تُقدّم فى كنكة من النحاس، ثم تُصب فى فناجين أو كاسات صغيرة.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة