الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
حـى الألـف مقـهى

حـى الألـف مقـهى

بين «الدو- يك» و»الدوش» احتمالات كثيرة ومسافات واسعة تحتاج إلى فيثاغورس ونيوتن، وديكارت، ألبيرونى وأينشتاين لحسابها، فهى احتمالات الحياة، فما هو ماض  يزداد وما هو آتٍ يقل، لذا يمكننا أن نصف المقاهى بأنها حياة. ليس من قبيل المصادفة أن يتمنى الناس من الزهر أن يلعب، ويقولونها مرَّة فى تنهيدة ومرَّة فى صياح «آه لو لعبت يازهر».



يطلبون من الحياة أن تقف إلى جوارهم دائمًا، أن تمنحهم فى كل مرّة يلقون الزهر «دوش»،  دون أن يدركوا أن ذلك قد يكون سبب خسارتهم وسط حيرة وذهول الجالسين الذين يواسون الخاسر «حظك وحش، الزهر عنّدك»، حكماء المقاهى فقط من يدركون مقولة سوفوكليس «أن نتعامل مع الحظ كما نعامل الصحة، نتمتع به إذا توفر ونصبر عليه إذا ساء».   لا تملك المقاهى فى حى شبرا العراقة التاريخية التى تملكها العديد من مقاهى أحياء القاهرة، والتى يصل إنشاء بعضها إلى حُكم الدولة العثمانية، أى قبل أن يكون هناك شبرا من الأساس، التى كان بها فى ذلك الوقت ما يقرب من 1000 مقهى بحسب أدورا  لين فى كتابه «المصريون المحدثون»،  كما أنه لم يكن هناك مقهى فى الأغلب مقرًّا لانطلاق الثوارت أو تجمع مشهور لسياسيين، إلا أنه بعد ذلك تحوَّل إلى حى الألف قهوة.  فقد بدأت المقاهى فى الانتشار مع خروج الحى من دائرة الزراعة ودخوله فى دائرة الصناعة والترفيه، لقد جاءت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨)، وكانت مصر مشتركة فيها بحُكم تبعيتها للاحتلال البريطانى، فوجدت الصناعة المحلية مناخها الملائم، فالشعب من ناحية محتاج للغذاء والكساء، وجيوش الإمبراطورية البريطانية من ناحية أخرى تحتاج إلى مصنوعات كثيرة، على رأسها المنسوجات، واستجابة لهذا الطلب المتزايد والمُلح فى السوق المصرية، جرى إنشاء العديد من المصانع فى القاهرة ومناطق أخرى وكانت شبرا إحدى تلك المناطق التى أقيمت فيها مصانع للملابس والمنسوجات، بعد أن تضرر قطاع الزراعة من الوضع الاقتصادى أثناء الحرب.  ومع وجود الأيدى العاملة والكثافات السكانية بدأت انتشار المقاهى، بالإضافة إلى ما قام به متعهد الحفلات اليونانى الذى يُعَد مؤسسًا لمقاهى وكازينوهات روض الفرج، والذى لاحظ  أن الحضور خلال أشهُر الصيف يكون محدودًا على العروض المسرحية المقامة على مسارح وسط البلد بتهويتها السيئة ومبانيها المغلقة على نفسها، فاستأجر  قطعة أرض فضاء على نيل روض الفرج، وجهزها بخشبة مسرح ومقاعد للمتفرجين، كما خصص ركنًا للـ»بوفيه» ولبيع ’الساندوتشات والقازوزة وكانت الفكرة مستغربة بادئ الأمر، لكنها مع الوقت نجحت نجاحًا شجع آخرين على أن يحذوا حذو الخواجة اليونانى، وهكذا فى غضون سنتين فقط صار على نيل روض الفرج ثمانية مسارح صيفية مفتوحة هى عبارة عن مزيج من المقهى والملهى.   ومع الوقت برزت مقاهى لفئات وطوائف ومهن معينة كما حدث فى العديد من الأحياء، فهناك مقاهى للأفندية، وأخرى لأصحاب الحِرَف والمِهَن المختلفة، ومع الوقت أيضًا أخذت شكل التركيبة السكانية مثلما حدث فى منطقة روض الفرج التى كانت تضم أكبر سوق لتجارة الخضروات والفاكهة فى مصر،  فقد أخذت الشكل المعتاد لباقى مقاهى القاهرة عبارة عن مقاعد توضع بشكل مرتب بجانب الجدران، وكانت خالية من أى ديكور، فقط الكراسى أو الدكة،. الأمر لا يحتاج أكثر من ذلك، ولا تحتاج إلى المساحات الكبيرة، فالزبائن هم أصحاب المحال من التجار الذين لا وقت لديهم للجلوس على المقهى أو المترددين على السوق الباحثن عن الرزق، فى حين نجد على حدود شيكولانى وطوسون مقاهى الأفندية، أما جربديان وأغاخان فكانت خالية تمامًا من المقاهى، حتى جاءت الثمانينيات وما تلاها فتغير الحال امتلات الشوارع فى كل مكان بالمقاهى لم يعد هناك ناصية واحدة دون مقهى أو نَصبة، عادت إلى شكلها القديم، ولكن هذه المرّة مع احتلال كل سور متاح، كل مساحة خالية، كل رصيف.  أصبح هناك قهوة الزبون «الطيارى» وفى الغالب تكون إلى جوار المصالح الحكومية وهى فى الأغلب تغلق مع انتهاء دوام العمل، أما مقاهى المثقفين فشبرا بها قهوة الصحافة، ويرجع تاريخ إنشائها إلى عام 1952، كان أغلب مُرتاديها من الصحفيين والمثقفين ورجال الأعمال، ومن المقاهى الشهيرة أيضًا كازينو شبرا الموجود فى بداية شارع الترعة، وأيضًا سان ستيفانو، وهناك مقاهى ولاد البلد وهى كثيرة جدّا لا يوجد لها إحصاء رسمى أو غير رسمى، فكل يوم يُفتح مقهى ويُغلق آخر، تجده متشابهًا فى كل مكان حتى فى المناطق الراقية من الحى، التركيبة نفسها، كبار يبحثون عن شغل وقت الفراغ، وشباب يبحثون عن انتصار خادع فى الطاولة أو الدمينو، يقضون ساعات طويلة يتحدثون عن هزيمة خصم بالدبش، ليقف المنتصر ويقول للمهزوم «جاى تانى يا حلو»، ويجلس الطرفان فى انتظار ضربة الحظ على صوت أحمد شيبة وهو يغنى «آه لو لعبت يا زهر واتبدلت الأيام!!».    

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق