ملاذ المثقفين الكادحين
عمق «ريش» الاستراتيجى

إيهاب مصطفى
حين تذهب إليه ستجد على جدرانه جرافيتى لشخصيات بارزة، منهم محمود الخطيب ومحمد صلاح، ونجيب محفوظ وأحمد فؤاد نجم ومكاوى سعيد وأمل دنقل فى الأدب، وأم كلثوم فى الطرب. وربما يعبر هذا الجرافيتى من دون كتابة، عن أن هذا المقهى يرتبط بتاريخ القوى الناعمة فى مصر، فالمقهى عاصر النكبات والنجاحات وكان شاهدًا حقيقيّا على الكثير من مسارات مصر فى حقب مختلفة.
هو "مقهى زهرة البستان"، الذى يُعد أحد أهم التجمعات الثقافية فى وسط القاهرة، ويلاصق زهرة البستان مقهى ريش، وهو الأمر الذى جعل الشاعر الكبير أمل دنقل يطلق عليه "العمق الاستراتيجى لريش" معتبرًا أنه امتدادًا للمقهى الثقافى العريق. تضاربت الأقوال عن العام الذى أنشئ فيه "زهرة البستان"، فهناك من يقول 1947، وهناك من يقول 1948، وكانت الزهرة تقدم الشيشة والطاولة، وهو الأمر الذى تفتقر إليه بعض المقاهى الثقافية الأخرى، وهو ما جعله قِبلة لزوار وسط المدينة، ثم أصبح مقهى خاصّا بالمثقفين. ذكر "زهرة البستان" فى الكثير والكثير من الأعمال الأدبية كواحد من أهم مقاهى مصر الثقافية، فهناك روايات صريحة باسمه تمامًا، مثل "زهرة البستان" للكاتب خالد إسماعيل، و"زهرة البستان" للروائية ياسمين فريد. كما تم ذكره من خلال الأحداث فى العديد من الروايات التى اتخذت من القاهرة مسرحًا لها، مثل رواية "باب الليل" لوحيد الطويلة، و"تغريدة البجعة" لمكاوى سعيد، ورواية "على محطة فاتن حمامة" للروائى فتحى سليمان. وعلى طاولاته كُتبت العديد من الروايات كما هو حال روايات مكاوى سعيد وعنه كتب أيضًا مكاوى سعيد فى "مقتنيات وسط البلد". وعنه قال الراحل مكاوى سعيد إنه فضّل زهرة البستان لأن المقهى كان أكثر تحررًا، ولأن باقى المقاهى كانت لها أساليب مغايرة، فمثلًا كان الأكل ممنوعًا فى بعض المقاهى الأخرى ، كما ذكره جمال الغيطانى فى كتابه "القاهرة وما فيها"، وكامل رحومة فى كتابه "المقاهى الثقافية فى العالم". قعدة الجمعة الروائية سلوى بكر فى أحد حواراتها ذكرت أن الروائى العالمى نجيب محفوظ كانت له جلسة خاصة يوم الجمعة، يعقدها بزهرة البستان، ومن هنا استمرت جلسة نجيب محفوظ حتى بعد انتقاله لمقاهٍ أخرى ، وكان يجلس معه العديد من الأدباء مثل يوسف إدريس ويحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل وأحمد عبدالمعطى حجازى، وعليه قرأ يحيى الطاهر معظم قصصه، وكان هناك أيضًا محمد عفيفى مطر، جمال الغيطانى، إبراهيم فهمى، وغيرهم مرورًا بالجيل الجديد من الكُتّاب المصريين. كانت منعقدة الجمعة وتقام أربع مرات شهريّا بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع، ومن أشهر مرتادى هذا التجمع، الروائى وحيد الطويلة، والشاعر عبدالمنعم رمضان، والقاص سعيد الكفراوى، والروائى جار النبى الحلو، والروائى إبراهيم عبدالمجيد، وغيرهم. الطبقات الكادحة حين أنشئ مقهى زهرة البستان كان "ريش" قِبلة الأغنياء وعُلية القوم، وكان يجلس عليه المقتدرون والكبار المتحققون من الكتاب، بينما اهتم زهرة البستان بالطبقات الكادحة والبسيطة، ومن هنا راج وأصبح مقهى شعبيّا له سمات خاصة أهمها قربه من ميدان التحرير وأيضًا إتساعه، حيث يحتل تلك المساحة الكبيرة التى توجد خلف مقهى ريش. ولشهرته وقربه من ميدان طلعت حرب، كان "زهرة البستان" مقصدًا حقيقيّا للأدباء والمثقفون، ولا نبالغ إن قلنا إن كل الأدباء جلسوا عليه، لكن مازال هناك خلط كبير يحدث حتى اليوم بين مقهى إيزافيتش ومقهى زهرة البستان، فالبعض يعتقد أن "إيزافيتش" هو مقهى زهرة البستان، والحقيقة أن إيزافيتش مختلف تمامًا عن الزهرة، حيث لم يتغير اسم زهرة البستان، بينما مكان مقهى إيزافيتش الآن هو معرض سيارات بعيدًا عن الزهرة. وإيزافتيش، كان يملكه لاجئ سياسى يوغسلافى، ومن أشهر رواده يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل والأبنودى وسيد حجاب وبهاء طاهر ومحمد البساطى ونجيب سرور . من الفترات التى يزدهر فيها زهرة البستان أثناء فعاليات معرض الكتاب، الذى يقام كل عام فى شهر يناير، حيث يفد إلى المقهى غالبية الكُتّاب العرب من ضيوف معرض الكتاب، وتناقش عليه الأعمال المعروضة والكتب الحديثة والإصدارات الهامة ، ويصبح "زهرة البستان" قِبلة للكُتّاب العرب مساءً، كما هو حال معرض الكتاب صباحًا.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة