
السماح عبد الله
.. ونوادر «براهمة» البستان !
كان مَقهَى زَهرة البستان فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين هو المحل المختار لكثير من أهل الأدب والشعر والثقافة، ما إن يفتح أبوابه فى الصباح حتى نتقاطر إليه من أماكننا المعلومة والمجهولة. وتظل حلقاتنا تتسع وتتعدد حتى تبلغ الذروة ما بين العصر والمغرب، فإن حل الليل تتكاثف وتتكاثر حتى إن الواحد منا ربما لا يجد كرسيًا يجلس عليه.
إن أخذ الليل فى التليُّل بدأت الآحاد تتسرب للأماكن المعلومة والمجهولة التى أتت منها، لكن البعض لم يكن يعرف له مكانًا معلومًا أو مجهولًا يذهب إليه أو يأتى منه، فهو إمّا ضيفٌ على صاحب مكان معلوم لم يلحق به، أو قادمٌ من محافظة ما فاته القطار، فى هذه الحال ينتقل إلى المقاهى التى تظل فاتحة أربعًا وعشرين ساعة، مثل مَقهَى أسترا فى ميدان التحرير أو مَقهَى الحُرية فى باب اللوق إن كانت حالته المادية غير ميسرة، فهما مقهيان رخيصان يمكن للواحد منا أن يقضى الليل كله حتى الصباح بكوبين من الشاى يوزعهما على الساعة الثانية والساعة الخامسة. أمّا إذا كانت حالته المادية مُيَسرة، فيذهب إلى على بابا فى ميدان التحرير أو كافيتريا أوديون على سطوح فندق أوديون بشارع عبدالحميد سعيد المتفرع من شارع طلعت حرب. غير أن بعض الأشخاص منا كانوا حاجزين مكانًا ثابتًا فى مَقهَى زهرة البستان، تراهم فيه فى أى وقت تذهب إليه، وكأنهم لا يتزحزحون عن كراسيهم، فقد صار كل واحد فيهم صاحب كرسى فى المقهَى، وتندهش متسائلًا: متى يأتون، ومتى يذهبون، ومتى يكتبون، ومتى يقرؤون؟. من هؤلاء القاص "إبراهيم فهمى". البراهمة فى المقهَى كثيرون، وكلهم أبناء المَطرح، وأصحاب المكان. الناقد الكبير "إبراهيم فتحى" الذى ما إن يهل على المقهَى حتى تلتفت إليه كل الحلقات، وتدعوه إليها، فهو الوحيد تقريبًا الذى له سُلطة رُوحية على الجميع، وله فى قلب كل واحد منا حجرة خاصة، يجلس فنرنو إليه، ويتحدث فنصبح آذانًا، وكلامه معنا يفتّح أبوابًا مُغلقة، ويشير إلى عناوين مهمة، وتجاربه شديدة التنوع فى السياسة والتاريخ والآداب، وقلبه عامر بمحبة الجميع. الكاتب "إبراهيم الحسينى" مَرّة أشار لى لكى أنهض معه، فنهضت، ولمّا سِرنا فى المَمَر الضيق المفضى إلى ميدان طلعت حرب، سألته: مالك يا "إبراهيم"؟. وضع يده فى جيبه وأخرج سيجارين بنيين، أعطانى واحدًا، ووضع فى فمه واحدًا، قلت له: ولماذا لا نشربهما ونحن جالسان مع الرفاق؟. أشعل سيجاره، وأشعل لى سيجارى، وواصل كلامه: أنا كنت أجلس على المقهَى أنسخ بيدى ثلاث نسخ أو أربعًا من قصتى لأعطيها للرفاق ليقرأوها، لم يكن فى جيبى مليم، فكيف أشرب سيجارًا أمام "إبراهيم فتحى" الذى كنت أنسخ القصص من أجل أن يقرأها، ولم أكن أملك سيجارة كليوباترا، فهل أصبحت "محمد حسنين هيكل" أو "فؤاد سراج الدين"؟!. وكان "إبراهيم فهمى" يمر علينا ويبتسم وهو قاصد كرسيه المعلوم بجوار ضلفة الباب الأيمن للمقهَى. "إبراهيم الحرامى"! الوحيد من البراهمة الذى عانَى كثيرًا من اسمه، هو المصور الفوتوغرافى "إبراهيم حسن"، الذى وجد فى مَقهَى البستان واحة ظليلة له للعب الطاولة. والحقيقة أنه كان حريفًا جدّا فى لعبة الطاولة، وكان يهزمنا جميعًا، لسبب ما لا أعرفه. كانت الطاولة فى مَقهَى زهرة البستان بلا زَهر، وكان على اللعيبة أن يكون معهم زَهر، و"إبراهيم حسن" ما إن يقبل على المكان حتى يضع يده فى جيب بنطلونه الصغير ليخرج زهرَى الطاولة، ويختار مَن يلاعبه، ولفرط ثقته فى الفوز، كان يحدد أسماء الذين سيلاعبهم بعد أن يهزم الذى أمامه. مرّة استطاع الفنان التشكيلى "عدلى رزق الله" أن يغلبه، لم يغلبه عشرة واحدة، بل عشرتين متتاليتين، وأنا كتبت مقالة فى جريدة الأخبار عن شىء ما متعلق بالثقافة، وعرجت بطريقة من الطرُق على هذه الهزيمة الثقيلة التى ألحقها الفنان التشكيلى بالمصور الفوتوغرافى، وهو كاد يجن، وراح يصرخ فى الجالسين: طوال عمرى أغلبكم جميعًا، ولمّا يغلبنى واحد منكم بالمصادفة تفضحونى فى الجرائد؟!. أمّا عن سبب معاناته من اسمه، فلأننا أطلقنا عليه اسم "إبراهيم الحرامى"، هو بطبيعة الحال ليس حراميّا، لكنه كانت له طريقة خاصة فى قَرص الزهر قبل أن يلقيه، وكان يضع القشاط فى الدّو بدلًا من اليَك، ويلهيك بالكلام والصخب والمجادلة حتى لا تنتبه لفعلته، ولما شاع أمره بيننا أطلقنا عليه هذا الاسم، وهو كان يبتسم، وفى كل مرّة يغلبنا فيها يهمس لى: ألن تنشر الخبر فى الجرائد؟!. وكان يتابع الجرائد بالفعل بحثا عن انتصاراته، وكان "إبراهيم فهمى" لا يشاركنا لعب الطاولة. أمّا الإبراهيمان الشاعران "داود" و"عبدالفتاح"، فقد كانا صاحبَى كرسيين أساسيين فى المقهَى، وكانت النسوة الجميلات يلتففن حولهما، وعندما يسلمن عليهما يسلمن عليهما بالأحضان والقبلات، وكنا نحسدهما، ولم نكن نعرف كيف نجعل النسوة الجميلات يُقبلننا ويَحتضننا وهن يسلمن علينا، كن يكتفين بالسلام باليد، وكان "إبراهيم فهمى" يشاركنا حسدنا لهما. زيارات "إبراهيم عبدالمجيد" للمَقهَى لم تكن كثيرة، لكنها نوعية، مرّة أخذنى فى سيارته الصغيرة إلى المقهَى، وكان إذا رأى سيدة حلوة يضرب عليها نور سيارته ويُزمر، رَكن السيارة بجوار المقهَى، واشترى كيلو ونصف كيلو سمك مقلى من الجمعية التعاونية المجاورة للمقهَى، وأكلنا السمك ونحن واقفان بجوار الجمعية. هو كسكندرى أصيل ضعيف جدّا أمام الأسماك، ودخلنا مسجد الأوقاف، وغسلنا أيدينا بالصابونة لإزالة أثار العدوان السمكى، ثم ذهبنا للمقهَى، وكأننا أكلنا سندويتشات فول وطعمية من فلفلة، كما وجدنا "إبراهيم فهمى" يأكلها قبل أن يطلب من "جرجس" أن يُحضّر له الشيشة. أمّا المتعة الكبرى التى كان يشعر "إبراهيم أصلان" فهو اقتراب اكتمال عدد من المجلات القديمة التى كان يبحث عن أعدادها فى سَلقط ومَلقط، خصوصًا مجلات الكاتب المصرى وجاليرى 68 والتطور. غرابة الأمر أن الشاعر "هشام قشطة" قوّض أحلامه كلها عندما استطاع بمقدرة لا تتأتى إلا لأولى العزم، أن يُعيد نشر هذه المجلات تحديدًا، فى مجلدات فخيمة ضمن إصدارات مجلته الكتابة الأخرى، فأحَسّ بأن جهده طوال كل هذه السنوات قد ضاع هباءً، وأن هذه المجلات قد أصبحت متاحة لنا جميعًا، وكان "إبراهيم فهمى" يضحك كثيرًا على هذا الموقف. حارس الستينيات الناقد "إبراهيم منصور" حارس الستينيات الذى يختلط شعر شاربه بشعر ذقنه، ويختلط سواد شعره بابيضاضه، حالة فنية مكتملة الحضور، وضحكته مجلجلة، ولا تستطيع وهو يكلمك أن تفصل بين جدّه وهزله، لكنه فى الحالات كلها شديد العمق، هو يحمل فى يده عصا يتوكأ عليها، وله فيها مآرب أخرى. أحد الصحفيين سأله عن أهم الروائيين الذين يراهن عليهم من الشباب، فأجابه بجدية تامة: "إبراهيم داود" أفضل شاعر. وكان "إبراهيم فهمى" يتعجب. "جرجس" صبى المَقهَى داخل على الثلاثين، طيب جدّا، ويبتسم للجميع، هو متخصص فى تحضير الشيشة للزبائن، خصوصًا شيشة "إبراهيم فهمى"، وكثيرًا ما كان يتداخل بالكلام معه، والتداخُل بالكلام مع "إبراهيم فهمى" شىء عجائبى، تقول له مثلا إن كمسارى أوتوبيس 216 أخذ الجنيه وكتب لى باقى الثمَن على التذكرة، ولما حانت محطتى رفض أن يعطينى الباقى متحججًا بأنه ليس معه فَكة، وقال لى: حقك مكتوب على التذكرة. يبتسم ويقول لك: تمامًا مثلما حدث مع "نفوسة النانى" فى النوبة القديمة. تقول له: وما الذى حدث مع "نفوسة النانى" فى النوبة القديمة يا "إبراهيم"؟ يقول لك وهو يبتسم:بعد أن دفنوها بعامَين، فتحوا المقبرة ليدفنوا بجوارها ابنتها، كان المَطرح ضيقًا، فقامت من موتها، ووسّعت لابنتها، وعدلت وضعيتها لاتجاه القبلة، وعادت للموت مرّة أخرى. "جرجس" مال على "إبراهيم فهمى" مرّة، وقال له: لماذا تذهب كل يوم إلى مُسطرد فى آخر الدنيا، تعال وعش معى. وأعجبته الفكرة، وذهب ليعيش معه. الغرفة التى يسكنها "جرجس" غرفة متواضعة، فى بير سلم أحد الشوارع الجانبية القريبة من وسط البلد، ليس فيها شىء حَسن غير أنها قريبة من المقهَى، ينهضان صباحًا، ويغسلان وجهيهما، ويتوجهان للمقهَى، يفطران، ويتخذ كل منهما مَجلسه المعتاد. لكنه فى يوم ما صحا مبتسمًا، ونزل للمَقهَى وحده، لم ينتظر "جرجس"، يبدو أنه كان مستعجلا جدّا، هو فى الحقيقة كان سعيدًا أكثر من كونه مستعجلا، ربما كان أكثر سعادة من الناس كلهم، ففى الغد سيذيع التليفزيون المصرى فيلمه (عن السفر والعشق). لم تكن القنوات التليفزيونية بالآلاف كما هى الآن، كانت فقط ثلاث قنوات، وبعض القنوات المحلية التى لا يراها غير أهلها، وهو مَرّ على الجميع ليخبرهم بموعد إذاعة الفيلم، حتى الذين كان فى حالة خصام معهم، وكانت المشاريب تنهال عليه تحية على هذا الإنجاز الفنى المنتظر. وفى آخر الليل اصطحب "جرجس" معه، واتجها لحجرتهما، أغمض عينيه، ونام، و"جرجس" لم ينتبه لشىء، ظنّه يغمض عينيه كما يغمضهما كل ليلة، ونام هو الآخر، وفى الصباح اكتشف أنه أغمض عينيه بشكل نهائى، تركه وذهب للمقهَى، وأخبر الناس. "إبراهيم فهمى" ليس له أهل فى القاهرة، أهله كلهم فى النوبة القديمة، لكن له أهل فى مَقهَى البستان، وهؤلاء الأهل هم الذين تكفلوا بكل شىء، لفّوه، وصلّوا عليه، ودفنوه فى مقابر الصدقة. وفى المساء، أقاموا له عزاء فى مَقهَى زهرة البستان، جلسنا جميعًا على الكراسى المرصوصة بامتداد المَمَرات كلها، الكرسى الوحيد الذى لم يجلس عليه أحد، هو الكرسى الذى بجوار ضلفة الباب الأيمن للمقهى. وفى آخر الليل، أذاع التليفزيون المصرى فيلمًا يُعرَض للمرّة الأولى من إخراج "هانى لاشين" وتأليف الأديب "إبراهيم فهمى". ثمة حكاية فرعية لهذه الحكاية الرئيسية، وهى حكاية صبى المقهَى "جرجس"، الذى بين ليلة وضحاها أصبح مقصدًا للجميع، صحفيين وكتّابًا وإذاعيين، كانوا يسألونه فى أدق التفاصيل، وجريدة الوفد نشرت صورته وهو بمريلة المقهَى، ولمّا وجد نفسه داخل الإطار، خلع مريلة المقهَى، وجلس على كرسى "إبراهيم فهمى"، كزبون وليس كعامل، وبدأ يطلب الطلبات من زملائه. وشيئًا فشيئًا بدأ يتكلم فى الأدب، ويقول رأيه فى الكتاب، حتى وصل به الأمر أن صرّح بأنه بصدد كتابة فيلم جديد، بعدها، اختفى تمامًا من المشهد كله، ولم يعد أحد يراه. عزيزى القارئ.. إذا قادتك قدماك يومًا إلى مَقهَى زهرة البستان، فاعلم أنه كان ثمة براهمة يضوعون المَطرح بعطر استثنائى. كانوا كلهم كوما، وكان "إبراهيم فهمى" كوما آخر. ليس فقط لأنه صاحب أجمل ابتسامة يمكنك أن تراها على وجه أحد، ولكن لأن التجربة قد أثبتت بالفعل أن العشق أوله القرى، وأنك إذا أفرغت نهر النيل فى النوبة القديمة من مياهه، ستجد فى القاع نخلا ذا بلح برّاق، وبيوتًا ذات قباب مضيئة، وأناسًا ذوى ذكريات يحوطها الأسَى.
تم اضافة تعليقك بنجاح، سوف يظهر بعد المراجعة