السبت 15 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

اكتتاب من أجل نيكولا

350 جنيها لافتتاح «الحرية»

مقر تجمع اليساريين فى «فوزية البرجوازية».. وأصحاب المعاشات فى «ملك وكتابة»!



أراد "يوسف أفندى" الموظف بشركة تقسيم الأراضى، وقريب له يدعى "مرقص ميخائيل"، وهو محاسب فى شركة بيع أقمشة بالجُملة، أن يساعدا قريبًا لهما آخر هو "نيكولا" فى افتتاح مشروع تجارى يديره لهما، وذلك بسبب كونه عاطلًا عن العمل وسَبَّبَ للعائلة العديدَ من المشاكل والأزمات. فاستطاعا أن يَجمعا 350 جنيهًا، إضافة إلى بعض الجنيهات القليلة من "نيكولا" لبدء المشروع.

وقع اختيار"يوسف ومرقص" على منطقة بباب اللوق مقرا للمشروع "المقهى"، وفى نفس محيط منزل الزعيم "أحمد عرابى"، والذى فشل ثورته تمّت مصادرة أملاكه وتحوَّل منزله إلى مستشفى للجنود الإنجليز، وبعد ذلك تم هدم الأثر بالكامل وبُنيت مكانه عمارة. تم افتتاح مشروعهما التجارى فى المنطقة نفسها بداخل عمارة مبنية على الطراز الإنجليزى عام 1936، واتفقا على تسميته مقهَى "الحُرّية" ربما لأن المكان يحمل بين ثناياه ذكريات وروائح الثورة العُرابية والمقاوَمة والحركات الفكرية والسياسية. فى ذلك الوقت، كانت المنطقة غيرَ عامرة بالسكان، ولا يوجد بالجوار سوى جنود الإنجليز، ومساكن متفرقة لبعض الجاليات الأجنبية، ولذلك كان مريدو المقهَى أغلبهم من فئة معينة سواء من الجنود أو من المدنيين الأجانب، وهو ما أدّى إلى خسائر فادحة فى البداية خاصة مع ابتعاده عن العُمران وحركة الناس فى الشارع، ولكن الحال تَغيّر وتَبدّل عام 1942وقت الحرب العالمية الثانية، حين تزايدت أعداد جنود القوات الإنجليزية، وأصبح المكان عامرًا بالرُّوّاد، خصوصًا أن أسعار ما يقدمه المقهَى من مشروبات لم تكن باهظة الثمَن. ذاع صيت المكان، وأصبح ترتاده طبقات مختلفة من المجتمع المصرى، من فئة البكوات والباشوات ورجال الشرطة والجيش، وأيضًا الفنانين والمثقفين..إلى أن جاءت ثورة يوليو1952، وتغيرت نوعية زبائن المقهَى، وفرض المصريون سيطرتهم بالكامل. مقهَى الحُرّية هو آخر مقاهِى وسط البلد المرخص لها فى تقديم الكحوليات، إلى جانب بعض المشروبات الساخنة التقليدية مثل الشاى والقهوة، ويحتل المقهَى الدور الأرضى للعمارة بمساحة 350 مترًا، وسقف يعلو بـ 5 أمتار عن الأرضية، محاط بشبابيك زجاجية مرتفعة، وطاولات رخامية وجدران تتوزع عليها المرايا، وتتزين بعض زواياه بالإعلانات القديمة.    وينقسم المقهَى إلى قسمين أحدهما يسمى قسم باريس، الذى يقدم  لروّاده، المشروب الكحولى  والآخر قسم برلين، الذى يقدم المشروبات العادية الساخنة والباردة. لم تتغير ملامح المقهَى كثيرًا منذ أن تم تشييده إلى الآن، باستثناء اختفاء صالتين للعب البلياردو، ما أدى إلى زيادة مساحة المقهَى من الداخل، واكتفى رُوّاده فقط بلعب الطاولة والدومينو، كما اختفت الحوائط التى كانت تفصل بين الرجال والسيدات.. كان المكان أيضًا يتميز بمرآة كبيرة فى مساحة داخل المقهَى، اتضح أنها كانت مكانًا مخصصًا لصالون حلاقة خاص بزبائن المقهَى فقط، وكانت تسعيرته لقص الشعر وحلاقة الذقن خلال الخمسينيات وبداية الستينيات 5قروش.  كان ضباط قوات الإنجليز فى السابق والضباط الأحرار  المصريون من بَعدهم مِن أهم زبائن المقهَى، و كانت تجمُّعاتهم ولقاءاتهم فى هذا المقهَى يترتب عليها العديد من القرارات الحاسمة، ومن أشهر رُوّاده من الضباط الأحرار الرئيس الراحل أنور السادات، كما شهد المكان تردد العديد من الفنانين والمثقفين عليه أمثال، أحمد رمزى ورشدى أباظة وشكرى سرحان وتوفيق الدقن وزينات صدقى وعادل إمام، والأديب فتحى غانم، والشاعر بيرم التونسى. وارتبط الشاعر  بيرم التونسى، شاعر العاميّة الكبير، تحديدا بمقهَى الحُرّية، حيث كان يُفضّل أن تكون جلسته أمام المقهَى باستثناء أيام الشتاء، فيجلس بالداخل  وكان يقرأ  ويكتب خلال الصباح فى جلسته المفضلة خارج المقهَى؛ لأن الهدوء يكون أكثر بسبب قلة عدد المارّة  فى ميدان باب اللوق، كما أن الخُضرة والأزهار المنتشرة فى أنحاء المكان ذاك الوقت كان باعثًا على الهدوء والراحة. ظهر مقهَى الحُرّية فى العديد من الأعمال السينمائية كمَركز لتجمُّعات فئات معينة من الناس يأتون إلى المكان ..فظهر  فى فيلم "فوزية البرجوازية" إنتاج 1985 من بطولة "صلاح السعدنى وإسعاد يونس"؛ ليكون مركزًا لتجمُّع مجموعة من التيارات اليسارية فى منتصف الثمانينيات، حيث يلقون أثناء لقاءاتهم القصائد الحماسية. ويظهر أيضًا فى فيلم "رومانتيكا" عام 1996، من بطولة "ممدوح عبدالعليم ولوسى وشريف منير وأشرف عبدالباقى"، وهنا كان مركزًا لتجمُّع شباب "الخِرتية" الذين يصاحبون السياح الأجانب ويتجوّلون معهم ويُقدمون لهم الخدمات بمقابلات مادية. ويظهر المقهَى كذلك فى فيلم "مَلك وكتابة" عام 2006، من بطولة "محمود حميدة وهند صبرى"، وكان المقهَى هنا مَركزًا لتجمُّع أصحاب المعاشات، الذين يتجمعون لتمضية الوقت وتفادى الاكتئاب بسبب الوحدة أو التقدم فى العمر. قد تتغير نوعية الزبائن بفعل تغيُّر الزمن والعصر الذى نعيشه على مدار 83 عامًا منذ افتتاح المقهَى إلى وقتنا الحالى، ولكنه ظل محافظًا على هيئته وطابعه المتواضع كــ "بار شعبى" فيكون بذلك قد قدّم مزيجًا كلاسيكيّا بين الثقافة الشرقية والغربية.

لا يوجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق